Friday, April 27, 2012

العاصفة



بقلم : كيت تشوبن
ترجمة: فتح كساب

كانت أوراق الشجر ساكنة جدا حتى إنها جعلت "بيبي يعتقد أنها كانت ستمطر. ولَفَت "بوبينوت"- الذي كان معتادا على التحدث مع ابنه الصغير بمنتهى المساواة - انتباه الطفل إلى غيوم داكنة كانت تتحرك يسارا من جهة الغرب ، مصحوبةً بهدير ، غاضب مُهدِّد. كانا في متجر "فريدهايمر" وقررا البقاء هناك حتى تمر العاصفة. جلسا قرب الباب على برميلين فارغين. كان "بيبي"  يبلغ من العمر أربعا وأوحى مظهره بالحكمة.
" ستكون أمي خائفة" قال "بيبي" وهو يطرف بعينيه.
       رد "بوبينوت" مؤكداً " ستغلق المنزل. وقد تأتي "سيلفي" لمساعدتها هذا المساء".
       قال "بيبي" هامساً " لا لن تأتي "سيلفي". جاءت "سيلفي" لمساعدتها بالأمس".
      انتصب "بوبينوت" متجها نحو حاجز المتجر واشترى علبة من الجمبري ، والذي كانت " كاليكستا" مولعةً به. ثم عاد إلى مقعده على البرميل وجلس متبلد الأحاسيس حاملا علبة الجمبري لحظة انفجار العاصفة التي هزت المتجر الخشبي وبدت كأنها تشق أخاديد في الحقول البعيدة. ألقى "بيبي" بيده الصغيرة على ركبة أبيه ولم يكن خائفاً. 
         لم تشعر "كاليكستا"، التي كانت في المنزل ، بأي قلق حول سلامتهم. جلست إلى نافذة جانبية تخيط باهتياج على آلة الخياطة. كانت شديدة الانشغال لدرجة أنها لم تلاحظ اقترابَ العاصفة. لكنها شعرت بدفء شديد، وكثيرا ما توقفت لتمسح عن وجهها حبات العرق المتجمعة عليه. أرخت زرَ سترتها عند العنق. بدأ الظلام يخيم، وفجأة انتبهت فنهضت مسرعة في أنحاء البيت مُغلِقةً النوافذ والأبواب.
كانت قد علقت ملابس "الأحد" الخاصة ب "بوبينوت "في الخارج على الشرفة الصغيرة الأمامية لتجف وأسرعت لتجمعها قبل سقوط المطر. وفي لحظة خروجها، وصل "آلسي لابالييه" إلى البوابة على حصانه. لم تره كثيرا منذ زواجها، ولم يجتمعا وحيدين أبدا. وقفت هناك ومعطف "بوبينوت" في يديها، وبدأت حبات المطر الكبيرة بالتساقط. أدخل "آلسي" حصانه تحت مظلة خم جانبي تكدست فيه الدجاجات على عجلٍ وكان هناك محاريث ومسحاة مكومة في الزاوية.
" أتسمحين لي بالدخول والانتظار تحت شرفتكِ يا "كاليكستا"؟ تساءل مستأذنا.
"تفضل يا سيد "آلسي".
اضطرب صوتاهما كالاضطراب عند الرعشة، وأمسكت بصدرة "بوبينوت" بقوة. وأمسك "آلسي"، الذي كان ممتطيا حصانه نحو الشرفة، أمسك السروال والتقط سترة "بيبي" الموشحة بالأشرطة والتي كانت على وشك الطيران مع هَبة ريحٍ مفاجِئة. عبَّر عن رغبته في البقاء خارجاً، ولكن كان من الواضح أنه سيكون في العراء: كان الماء يضرب على الألواح بشدة، ودخل مُغلِقا الباب خلفه. وكان من الضروري وضع شيء تحت الباب لمنع دخول الماء.
"آه! يا له من مطر! لم تمطر هكذا منذ عامين" قالت "كاليكستا" متعجبةً وهي تلُف قطعة الخيش و"آلسي" يساعد في إدخالها تحت الشق.
كان قوامها أكثر امتلاءً بقليل من خمسة أعوام خلت حين تزوجت؛ لكنها لم تفقد شيئاً من توقدها. عيناها الزرقاوان لا تزالان تحتفظان بسحرهما؛ وشعرها الأصفر المُبَعثر بفعل الريح والمطر يتلوى بعناد أكبر حول أذنيها ومنبت نهديها.
 ضرب المطر على السقف الخشبي المنخفض بقوة وقعقعة عظيمتين هددتا بكسر السقف وإغراق من تحته. كانا في غرفة الطعام -غرفة الجلوس - غرفة المرافق العامة. وكانت غرفة نومها ملاصقة لها، وإلى جانبها أريكة "بيبي". انتصب الباب مفتوحا، وبدت الغرفة، بسريرها الأبيض الضخم ومصارعها المغلقة، مظلمة غامضة.
ألقى "آلسي" نفسه في المقعد الهزاز وبدأت "كاليكسا" تجمع بعصبية خيوط ملاءة كانت تخيطها عن الأرض.
وتساءلت " إذا استمر الوضع هكذا لا يعلم إلا الرب إن كانت السدود ستحتمل!
وقال "مالك و للسدود؟" 
"
لي ما يكفي! هناك "بوبينوت" وبرفقته "بيبي" في الخارج في تلك العاصفة – إذا لم يغادرا متجر "فريدهايمر".
" لنأمل يا "كالكستا" أن لدى "بوبينوت" ما يكفي من الإدراك حتى لا يخرج في هذا الإعصار".
ذهبت ووقفت عند النافذة و نظرة انزعاج شديدة على وجهها. مسحت الإطار الغائم  بفعل الرطوبة. كانت الحرارة خانقة. نهض "آلسي" وانضم إليها عند النافذة ، ناظرا من فوق كتفها. كان المطر يهطل حاجبا الرؤية عن الأكواخ البعيدة ومُغلفا الغابة البعيدة بسديمٍ رمادي. كان وميض البرق متواصلا. ضربت صاعقة شجرة عالية عند حافة الحقل. ملأت المدى المرئي بوهج يُعمي وبدا صوت التحطم كأنه يضرب الألواح التي وقفا عليها.
غطت "كاليكستا" عينيها بيديها، ومع صراخها، مالت إلى الوراء. طوقتها ذراع "آلسي" ، وللحظة جذبها إليه بشيء من الهياج.
"كن صالحاً" صرخت وهي تبعد ذراعه التي تطوقها متراجعة عن النافذة، " سيكون البيت هو التالي! لو أعرف أين "بيبي". لم تستطع استجماع نفسها؛ ولن تستطع الجلوس. أمسك "آلسي" بكتفيها ونظر إلى وجهها.
هيَّجت ملامسة جسدها الدافئ المرتعش- عندما جذبها إلي ذراعيه بلا وعي- كُلَّ متع ورغبات الأيام الخوالي في لحمها. وقال:
"لا تخافي يا "كاليكستا" لن يحدث شيء. إن البيت أخفض من أن يُصعق بوجود كل تلك الأشجار العالية حوله.والآن ألن تهدئي؟ قولي ألن تهدئي؟"
 رد "آلسي" شَعرَها الدافئ والذي يتصاعد منه البخار، عن وجهها إلى الخلف. كانت شفتاها بحمرة ورطوبة بذرة الرمان. أما بياض رقبتها وملمح صدرها الصلب فقد أربكه كثيرا. وحالما نظرت إليه أفسح الخوفُ في عينيها الزرقاوين مكانا لومضة ناعسة فضحت رغبتها الجسدية. نظر إلى عينيها ولم يكن هناك من شيء يفعله سوى ضم شفتيها في قُبلة. ذكرته بقداس صعود العذراء بعد قيامتها.
"هل تذكرين- في قُدّاس الصعود يا "كاليكستا"؟
 سألها بصوت منخفض أوهنته الرغبة. آه! لقد تَذَكَّرَتْ؛ لأنه في ذلك القُداس قبَّلها وقبَّلها وقبَّلها؛ حتى ذابت أحاسيسه بالكامل ، ولينقذها فقد لجأ إلى رحلة يائسة. لو لم تكن حمامة طاهرة في تلك الأيام، لكانت صعبة الانتهاك؛ مخلوقة شهوانية تركزت قوتها في شدة ضعفها، ما منع شرفه من الانتصار عليها. الآن، بدت شفتاها حرّة للتذوق، كما هو حال عنقها الأبيض المستدير وصدرها الأكثر بياضاً.
لم يباليا بالسيول الجارفة ، وجعلها الهدير تضحك لحظة سقوطها في ذراعيه. كانت انبعاثا في تلك الحجرة الخافتة الغامضة، ناصعة البياض  كالأريكة التي اضطجعت عليها. ولأول مرة عرف لحمها المتماسك المرن حق بكوريته ، مثل زنبقة بيضاء تدعوها الشمس لمشاركة الحياة النابضة أنفاسها وعطرها.
وفرة الشغف الكريمة، الخالية من الرياء والتحايل، كانت مثل شعلة بيضاء توغلت ووجدت استجابة في أعماق طبيعته الجسدية الخاصة التي لم يتم سبرها من قبل. 
عندما لمس ثدييها استسلما لنشوة راعشة، تستصرخ شفتيه. كان فمها نافورة من البهجة. وعندما استحوذ عليها، بدا أنهما أُغشي  عليهما عند تخوم غموض الحياة. 
بقي متكئا عليها، لاهثاً، واهنا متقطع الأنفاس، و قلبه يضرب عليها مثل مطرقة.وكانت إحدى يديها تمسك برأسه، وشفتاها تلامس جبهته برفق. ويدها الأخرى تضرب بإيقاع لطيف كتفيه القويين.
كان هدير الرعد بعيدا ويتلاشى. والمطر يضرب بهدوء على الألواح ، داعيا إياهما إلى النعاس والنوم. لكنهما لم يجرؤا على تلبية الدعوة.
توقف المطر؛ وكانت الشمس تُحوِّلُ العالم الأخضر إلى قصر من الجواهر اللامعة. راقبت "كاليكستا" من شُرفتها "آلسي" ممتطيا حصانه ومبتعدا. التفت إليها متبسما والبهجة بادية على وجهه؛ رفعت ذقنها الجميلة في الهواء، وضحكت بصوت عال. 
وبعد طول سير وإجهاد، توقف "بوبينوت وبيبي" في الخارج عند الحوض ليُعلنا عن وصولهما.
"يا إلهي! ماذا ستقول أمك! يجب أن تخجل من نفسك. لم يكن يجدر بك ارتداء هذا السروال الجيد. أنظر إليه! وذاك الطين على ياقتك! كيف وصل ذلك الطين إلى ياقتك يا بيبي؟ لم أرَ في حياتي صبياً مثلك"!
كان بيبي مثالا على الإذعان المثير للشفقة. وكان بوبينوت تجسيدا للجدية المُفرِطة بكفاحه للتخلص من آثار السير المضني على الطرقات الوعرة والحقول الرطبة البادية عليه وعلى ابنه. كشط الطين عن ساقي وقدمي بيبي العاريتين بعصاً، وبمنتهى الحذر أزال كل الآثار عن حذائه الثقيل. ثم ، استعدا لمواجهة الأسوأ – مجابهة ربة منزل مُفرِطة في التدقيق، دخلا بحذر شديد من الباب الخلفي. 
كانت كاليكستا تُحضِّر العشاء. أعدَّت الطاولة وكانت تضع القهوة على الموقد. انتصبت لحظة دخولهما.
"آه يا بوبينوت! لقد عُدت! يا إلهي! لقد كنت قَلِقة. أين كنت أثناء هطول المطر؟ وبيبي؟ ألم يبتل؟ ألم يتأذَ؟"
 عانقت بيبي وأفرطت في تقبيله. ماتت كل تبريرات واعتذارات بوبينوت التي كان يُعدها طوال الطريق على شفتيه عندما تحسسته كاليكستا لترى إن كان جافاً، وبدا أنه لن يُعبِّر عن شيء إلا الرضا بعودتهما سالِمَين.
"أحضرت لكِ جمبري يا كاليكستا" قال بوبينوت  وهو يُخرج العلبة من جيبه الجانبي الكبير ويضعها على الطاولة.
"جمبري"! آه يا بوبينوت! أنت عظيم لكل شيء" ثم قبَّلته قُبلة قوية تردد صداها على وجنته، "عظيم، سيكون لدينا وليمة هذه الليلة!"
بدأ بوبينوت وبيبي بالاسترخاء وتدليل نفسيهما، وعندما جلس ثلاثتهم إلى الطاولة ضحكوا كثيرا وعالياً لدرجة أن أي واحد قد يكون سمعهم من " لاباليرييه".
كتب آلسي لاباليرييه لزوجته، كلاريس، تلك الليلة. كانت رسالة مفعمة بالحب، مليئة بالتعاطف السخي. أخبَرَها ألا تتعجل بالعودة، لكن إذا أحبَّت هي والأطفالُ الإقامة في بلوكسي، فبإمكانهم البقاء لشهر. كان يتدبر أمره جيدا؛ ورغم اشتياقه لهم، إلا أنه كان مستعدا لتحمل الفراق فترة أطول – لإدراكه أن صحتهم وسرورهم هي من أوّلى الأمور بالاعتبار.
أمّا كلاريس، فقد غمرتها الفرحة عند استلام رسالة زوجها. كانت هي والأطفال بخير. كان محيطها متناغماً؛ فالعديد من أصدقائها ومعارفها يقطنون في منطقة الخليج. وبدا لها أن أول نَفَسٍ حر لها منذ زواجها يعيد الحرية البهيجة من أيام عزوبيتها. ورغم إخلاصها لزوجها إلا أن حميمية العلاقة الزوجية كانت أمراً ترغب في التخلص منه لفترة.
وهكذا انتهت العاصفة وكان الجميع سعداء. 


No comments:

Post a Comment