Sunday, October 21, 2018

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني


 
بقلم :فتح عبد الفتاح كساب
 دموع فينيس للشاعر والقاص علي طه النوباني هي أول تجربة روائية له .صدرت عام  وتقع في مائة وستين صفحة من القطع المتوسط، وتحمل الرواية جديدا في شكلها 7102 ومضامينها من نواح عديدة.
أن يكتب الشاعر قصة قصيرة، فهذا ليس أمرا جديدا لأن مشتركات الشعر والقصة القصيرة كثيرة من ر صر النص وتكثيف الصو.. .أما الرواية فهي أمر مختلف تماما، فهي ِ مثل ق ّ  تحتاج لة وتعدد في الأصوات أكثر مما تحتاجه القصة أو ّ س نصي طويل وحوارات مطو َفَ إلى ن القصيدة .كما أن آثار الشعر قد تكون واضحة في التجربة الروائية للشاعر من ناحية اللغة   َ الشعرية الم ستخدمة في ث – صر الرواية وسرعة التداعيات والأحدا .هذه الملاحظات َ وق ، النص تضع محاولة تقديم قراءة أو مادة نقدية في حالة من القلق والتوتر لجهة التعاطي مع –إن صَّحت النص، قراءة أو نقدا .وهي مغامرة أتمنى ب أخرج منها ظالما لنفسي أو للكات ّ ألّ.
جديد رواية الشاعر علي النوباني هو أن أحداثها تجري في خطين زمنيين مختلفين: الأول  ، خط حديث والآخر خط روماني قديم .كل مسار منهما له فصوله الخاصة، ونظام ترقيمه الخاص لكن القارئ المدقق يلمس تلاقيات في الخطين الزمنيين اللذين تدور أحداثهما في مكان واحد هو  – جرش في الحديث وجراسا في القديم .الجديد الثاني في الرواية هو أن الكتابة الروائية عموما  تدور في دائرة ثنائية المركز والأطراف في المقاربة المكانية، أي أن –إن لم أكن مخطئا العاصمة أو المدن الكبيرة هي محور الأحداث في غالبها وتكون القرى أو مدن الأطراف الصغيرة مكانا فرعيا أو نقاط عبور أو ذكريات استرجاعية للشخصيات في الرواية .بالنسبة  ّ كان العكس حيث عمان هي الثانوية وجرش هي المحورية، وقد تكون إشارة من ، لدموع فينيس الكاتب أن حالة بلد ما يتطابق فيها المركز مع الأطراف في مشتركات مهيمنة، إيجابية أو سلبية. 
 ويظهر  "وهيب "الشخصية – حادث سيارة –يفتتح الراوي الرواية بصدمة قوية المحورية في كل الخط الروائي الزماني الحديث متشائما تترى على رأسه المصائب، ويصطدم بواقع من التناقضات في تعاطي بعض الشخصيات الفرعية مع الحادث وما يجب القيام به . والفصول السبعة الّولى تقديم لباقي الشخصيات الرئيسية وبعض الأخرى الفرعية؛ مثلا زكية زوجة وهيب التي تظهر بصورة الأنثى التقليدية التي تتعامل مع عّر افة لتشخيص مشاكلها وإيجاد حلول لها حيث يطلق عليها وهيب لقب "زكية الهبلة" .أما ابنته سناء المشلولة الدائمة النظر إلى جرش القديمة من نافذة غرفتها فقد كانت صاحبة طاقات إبداعية تفجرت بعد معاناتها مع الشلل والعزلة النسبية .م تقدي الشخصيات في هذا الجزء وما يليه بصيغة الثنائيات الضدية، وهذه على ّ تم ما أظن إشارة واضحة من الكاتب أو الراوي أن الثيمة الأساسية تدور حول حالة فصام وتناقض ذاتي تمارسه الشخصيات تبعا للمواقف التي تتعرض لها.
وعلى العكس من الخط الزمني الحديث يقتتح الراوي الخط الزمني الروماني بوصف يغلب عليه الرومانسية، الماء في نهر الذهب والحياة النابضة والحركة في الأسواق؛ مقابل جرش الحديثة التي تعاني شحا في الماء وحياة أشبه ما تكون بالآلية .لكن في وسط تلك العبارت
الرومانسية تظهر كلمات توحي بتوتر لّحق؛ فعبارة  "الحر الشديد و "الحرب  "التي يخوضها دوروتيو ينبجس أمامنا التقاء مع الخط الحديث: (حديث سعيد الطويل عن الجهاد في أفغانستان ) أثناء لقائه مع وهيب.
تستمر فصول الرواية ضمن تقنية إبراز الثنائيات الضدية، لكن هذه المرة ليس في الشارع بل في مكان مغلق هو مقر الحزب والعديد من الشخوص ممن هم أعضاء في الحزب .لقد ضة ضمن حالة من المظلومية في صراعها الثقافي أو ِ دأب الروائيون على إبراز الأحزاب المعار اشتباكها السياسي مع الس لطة؛ لكن الصورة هنا مختلفة تماما؛ فالوصف الذي يقدمه وهيب لمكتب ِ الحزب يقدم للقارئ حالة مختلفة، هل هو شعو ر بالتعاطف؟ هل ي درج هؤلّء ضمن دائرة  واستخدام ، وفحوى حديث الرفاق في الّجتماع ،الخصوم؟ فكآبة المكان والضوء الأقرب للإعتام وهيب عبارة "ترتيب الرفاق طبقيا "في حزب يسترشد بالماركسية إنما هو حالة من المفارقة الشديدة الإيحاء، واستخدامه عبارة "الرفاق المخبرون "هي دلّلة مباشرة وليست إيحاء على حالة من التواطؤ الصامت بين قيادات الأحزاب المعارضة والجهات الأمنية التي تشد حبالها أو ترخيها  َّ ّ حسب سيناريو م ت بل إن هنالك حالة الّنتهازية التي عرضها وهيب في حديثه ، فق عليه ضمنيا عن "الرفيق "الذي أصبح وزيرا وصمت بعض الرفاق عن تجاهله للحزب والّكتفاء برأي زوجته ، مقابل مصالح ذاتية.
الإشارة الأهم والأكثر ثقلا في موضوع الحزب، هي حالة الهلهلة المعرفية لأعضاء الحزب،  فالرفيق المخبر كان يكتب تقريرا للدائرة الأمنية أكثر وضوحا وأقّل  أخطاء مما يكتبه في جريدة الحزب .وتتوالى حالّت الفصام أو التضاد في شخصيات الرواية؛ فالمدرسة التي ي فترض أنها تعمل على تطوير الحالة العقلية للطلاب تتعرض فيها سناء لحالة من الّستنكار ردا على تساؤلّتها حول مسألة الّبتلاء الرباني كحالة خلاصية عند حديثها مع معلمة التربية الإسلامية وإلى الوصم والّستهزاء من قبل معلمة التربية الرياضية.
في الخط الروماني كذلك ظهرت إشارات واضحة تلتقي مع الخط الحديث: في الّحتفال الطقسي مثلا: سابينيوس- الفتى المخصي- يؤدي دور زيوس (كبير الآلهة)  بحضور الحاكم ار الذين يصنعون الأحداث باسم الإله، ثم رغبة والد فينيس في شكر الآلهة في أن ّ والكاهن والعش يقدم جرة نبيذ لإله الخمر وخروفا للربة الحامية للمدينة (أرتيمس )والتي تنقلب عليه وعلى أسرته ويلا وثبورا فيما بعد .
ثم يظهر صوت سناء وانشغالها بوسائل التواصل الّجتماعي كنوع من التخفيف عنها بعد فقدانها لحركة ساقيها، حيث تزيد وسائل التواصل تعقيد الحياة بالنسبة لها؛ فالتناقض الواضح بين الحقيقي والّفتراضي في شخصيات الأصدقاء الّفتراضيين تنم عن عدم رغبة في مواجهة واقع أكبر من احتمالهم أو محاولة إخفاء واقع- التقنع؛ لأن وسائل التواصل الّجتماعي تصبح البديل الآمن عن الواقع الفعلي الذي يعرفك فيه الجميع.
لقد بدا واضحا وجود رابط بين آليات إدارة عمل المؤسسات وإدارة الأحزاب؛ فكلاهما لّ يبحث عن الأكفأ أو الأكثر معرفة وخبرة وإنما عن الولّء، فمروان زميل وهيب الحريص على أداء العبادات أثناء وقت العمل هو نفسه الذي ينقل كل حركات وسكنات الموظفين للمدير، وهو نفسه الذي أصابته حالة سعار حين رأى قوام لميس الفاتن، وقام بنقل طاولته مقابل طاولتها، أما
القيام بالعمل فهو الحالة الثانوية، وكذلك أمر الحزب، فكلما كنت أكثر مبدأية والتزاما بنضالّتك وتزاوج بين الشعارات والتطبيق تكون أكثر تهميشا.
يظهر صوت الراوي في عرضه لمسألة الغفلة عن الأبناء وتغيّرهم في خضم انشغال الآباء بهموم الحياة اليومية، ويظهر ذلك في علاقة سناء وأخيها سامح مع أبيهما وهيب؛ فهما متفهمان لظروف الأسرة ويتحملان جزءا من المسؤولية الثقيلة، إلّ أن طريقتهما في الحوار وتساؤلّتهما العميقة والمحرجة جعلت وهيبا يبدو مصدوما ومرتبكا أمام ما يرى ويسمع.         
تظهر الّزدواجية في الشخصية عند وهيب أيضا، فعلاقته بلميس كانت متنفسا مما يواجهه من ضغوط العمل والبيت، كما كان يرى في تلك العلاقة مبررا لما يفتقده من حميمية وجموح في علاقته الزوجية مع زوجته زكية؛ فزكية أقرب للتعفف عند إقامة العلاقة الحميمة معه ويبدو الأمر وكأنه واجب أو عبء ثقيل بالنسبة له، واللافت أن وهيب برر هذه العلاقة عبر تقنية الصوت الداخلي بينما أخبرته لميس عن تجربتها مع زوجها السابق بصوت مسموع.
لجأ الراوي إلى استخدام تقنية الصدمة والمفاجأة في الخط الروماني والحديث؛ ففي  َ الفصل الخامس الروماني ظهرت هذه التقنية مبرزة الثنائيات الضدية  بكل وضوح؛ ف (نيرفا ) المتجهة للسوق لشراء "عبد "تنهار أمام مشهد أخيها بين يدي النخاس معروضا للبيع، وقبل ذلك كانت تتضرع للآلهة لحفظ زوجها من أخطار السفر، لكنها تكيل الشتائم لنفس الآلهة في السوق عند مشاهدة أخيها معروضا للبيع.
وتمثلت الصدمة في الخط الحديث في العديد من المشاهد منها انفجار وهيب وعدم قدرته على احتمال المزيد من تناقضات واستفزازات زملائه في العمل حيث يبدأ زميله مروان أسئلة حول الغرب وتحلله الأخلاقي منتظرا من وهيب الموافقة؛ فيواجهه وهيب  بسيل من الّنتقادات والحجج ل التي ت ظهر عجز ا شرق عن الإنجاز والتطور مما يؤدي إلى ارتفاع حدة النقاش نتيجة انفعال وهيب وعجز مروان عن الرد الذي يدفعه إلى الطعن في أخلاقيات وهيب بالسؤال  "هل ترضى ذلك لأختك أو بنتك؟."
، كان لتقنية الّسترجاع والصوت الداخلي حظا  في الرواية وقد ظهر ذلك عند وهيب ً وافرا في 72 في استرجاعه لملابسات زواجه من زكية، وظهرت كذلك في الفصل 70 مثلا في الفصل  01 حديث لميس عن إخفائها لبعض تفاصيل تجربتها مع زوجها السابق، وعند سناء في الفصل في حديثها عن معاناتها وآراء المحيطين بها حول إعاقتها.  
لقاء الخط الزمني الروماني مع الخط الزمني الحديث كان واضحا في عدة مشاهد، فسفر لميس أو هروبها إلى أمريكا بسبب صعوبة الصمود في وجه الظروف القاسية والخوف من مواجهة زوجها السابق بعد خروجه من السجن يقابله هروب فينيس من عبوديتها إلى مقبرة عائلة دوروتيو .وتقديم لميس الصدفة الزرقاء هدية لوهيب يوم وداعها له قبل السفر يقابله حمل فينيس لصدفة مع أشياء أخرى معها .والصدفة ترمز للولّدة أو الّنبثاق وهي إحدى الرموز الدالة على إلهة الحب أفروديت، وكذلك يتقاطع الخطان الزمنيان مجددا في حديث مروان مع الموظف  وما وجده أثناء حفره ، الجديد غسان بديل لميس حول المزرعة التي يمتلكها غسان في جرش
لحفرة عميقة للزرب (إحدى طرق الشواء) وعدم اكتراثه بما وجد لأنه لم يكن ذهبا  (مدمعة وصدفة وسهام وهيكل عظمي .)
كانت ذروة أحداث الرواية انتحار سناء وانهيار عالم وهيب، ظهر الّستسلام الكلي بمشاهداته في السوق بعد انتهاء العزاء، بدءا بيافطات أبو فنيطل مرشح العشيرة والحزب، مررورا بصابر الآجو وحالة البؤس التي يعيشها واليافطة التي تعلو رأسه ومكتوب عليها  " َ   "الوطن للجميع إلى بلادة أحاسيسه تجاه سعيد وحديثه الطويل الممل عن منجزات الجهاد في سوريا، وكانت آخر بوادر استسلامه هي لّ مبالّته تجاه مفارقة نشر دول الخليج للديمقراطية.
تستمر الثنائيات الضدية حتى آخر الرواية في حديث سعاد شقيقة زكية العائدة من كندا للاستقرار في الوطن، وتظهر سعاد أو كارلّ كما تحب أن تنادى مثالّ على حالة فصام الشخصية العربية لحظة خروجها من محيطها المحافظ أو محيطها القناع؛ ففي كندا تعمل في أي عمل متوفر بغض النظر عن الظروف ولّ تعير للتقاليد التي تربت عليها أية أهمية كما يتبين من حديثها عن علاقتها بأزواجها الأربعة؛ فهي تخلع أو تتزوج بمبرر أو دون مبرر؛ وتنصح ابنتها بالقيام بنفس السلوكات وتصف الذكر على أنه  "آلة تفريخ ."والمغترب يعيش هناك دون قيود لكن عندما يكبر الأطفال تبدأ رواسب الثقافة الأم تفعل فعلها خاصة إذا كان المولود أنثى، وآخر التناقضات هو عدم القدرة على العمل دون ممارسة الغش والخداع الذي انطبع عليه المغترب قبل الهجرة، وهي السلوكات التي يمارسها الأفراد في الوطن دون أدنى شعور بتأنيب الضمير، وقد مثلت سعاد (كارلّ )هذا المنحى حير تمثيل.
أخيرا ظهر التكامل في اللقاء بين الروماني والحديث في هروب فينيس إلى القبر ودخول ّ  ،وهيب إلى غرفة سناء ورؤيته للقصة التي كتبتها وتسمر عينيه على لوحة اليد الممتدة في الفراغ التي رسمتها سناء .
هل هو اليأس حد الّنتحار؟ هل هو الصمت في صخب التناقضات؟ هل هو الرفض المعزول عن الفعل؟ هذه قراءة في رواية "دموع فينيس "لعلي النوباني، وربما يختفي بين السطور أشياء أخرى قد نراها في قراءات أخرى.   

Saturday, October 20, 2018

السلطة المجنونة تقتل مهمشيها


2018 / 6 / 28
لم أستطع تمالك نفسي من الغضب عند سماع خبر صدور حكم بالسجن لمدة عشرين عاما على المناضل المغربي " ناصر الزفزافي" ورفاقه الذين شاركوه نضالاتهم المطلبية بالتشغيل والتنمية في منطقتهم في الريف المغربي - المنطقة الأكثر تهميشا والأشد فقرا في المغرب، بتهمة (تقويض النظام العام والمساس بالوحدة الوطنية).ولمن لا يعرف الريف في المغرب يكفي أن نقول أن المناضل أو المجاهد عبدالكريم الخطابي الذي قاد الثورة ضد الوجود الفرنسي والإسباني الاستعماري كان من الريف المغربي كما الزفزافي، فالمفارقة هنا عجيبة لا يمكن فهمها وهي أن ذات المنطقة التي خرجت للمطالبة بالكرامة والعدالة والتنمية هي ذات المنطقة التي ثارت بوجه المستعمر وأعادت للدولة استقلالها وكرامتها. والوجه الآخر للمفارقة هو أن هذه المنطقة هي الأكثر تهميشا وحراكاتها الأكثر تعرضا للقسوة والبطش. هل هذا هو ثمن الوطنية والحس بالإنسانية والكرامة؟
نعود للمناضل ناصر الزفزافي ونلخص ما حدث له قبل السجن:
ناصر الزفزافي، لمن لا يعرفه، ناشط مغربي قاد الاحتجاجات أيام قام شرطي مغربي بطحن مواطن مغربي مع أسماكه المعروضة للبيع في طاحنة قمامة. الناشط المذكور تمت مطاردته والقبض عليه بسبب مقاطعته لخطيب الجمعة في مدينة الحسيمة، بعد أن قام الخطيب بتوجيه اتهامات للمحتجين بإثارة الفتنة التي ستقود المغرب لما آلت إليه الأمور في العراق وسوريا. ووصل شعور الحكومة بالتهديد أن قامت وزارة الأوقاف المغربية بإصدار بيان في نفس اليوم، اتهمت فيه الزفزافي بإفساد الجمعة والإساءة للجماعة. وختمت الوزارة بيانها بالآية التالية ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها). مع العلم أن الزفزافي كان في المسجد، كالمعتاد، لأداء الصلاة دون علم مسبق بما سيقوله الخطيب.
وكما هو واضح، لم تكن حجة السلطات في مطاردته والقبض عليه كافية تحت أي مسمى جنائي فاستعانت بأحد أضلاع الحكم الثلاث التي تُسنِد السلطات العربية، ألا وهو ضلع "الدين"، حيث استعانت وزارة الأوقاف المغربية بكل الفتاوى السياسية التي كبَّلت المعارضين في عهود الحكم العربي قبل ألف وأربعمئة عام وحتى الآن لتبرر للحكومة القبض عليه والتنكيل بحراكه المطالِب بالعمل والعدالة في التنمية.
والسؤال اللغز هنا: هل ما تقوم به النظم العربية من تمادي في الاستبداد والفساد والتنكيل بالحراكيين المطالبين بالعدالة والديمقراطية والتوزيع العادل للتنمية والفرص والثروة الوطنية نابع من استخفافٍ "برعاياها" أم هو التعامي عن حالة من التأزم والضغط الشديدين المؤديان إلى الانفجار؟ وهل ما زالت تلك السلطات مؤمنة أن ما تقوم به من تبديل للوجوه بعيدا عن جوهر السياسات التي تنتهجها ينطلي على الناس؟ الغريب في الأمر أن رؤوس السلطات العربية تتبجح دائما بالدعوة للإصلاح ومحاربة الفساد، لكن ممارساتهم على الأرض لا تشي بذلك. فالنظم والقوانين الانتخابية يتم تفصيلها لإيصال نوعية محددة من الشخصيات التي تتماهى بالمطلق مع السياسات المتبعة لتكريس المزيد من الإفقار والإذلال للناس، مترافقة مع تعزيز منظومات الفساد والاستبداد والنهب المبرمج لمقدرات الأوطان. وحتى عند السماح بالعمل العام عبر منظومة حزبية، تكون تلك الأحزاب ديكورية ولا تمتلك الحد الأدنى من القدرة على مجرد التفكير بالتواصل مع من تسميهم " جماهيرها الشعبية". فعند تشكُّل تلك الأحزاب تكون موزعة محاصصةً ما بين حصة للأجهزة الأمنية وحصة لرأس السلطة وما تبقى من العضوية لا يعدو كونه مجرد كومبارس للتصفيق "لأمين الحزب المُلهَم" وسياساته الوطنية المتوازنة وقدراته الخارقة للبقاء على رأس الحزب حتى الممات رغم كل "المؤامرات الداخلية والكونية التي تُحاك ضده"! فحتى المخارج التي تطرحها تلك السلطات لا تزيد الوضع إلا تأزيما واحتقانا.
السؤال الكبير الآن، هل تسعى تلك النظم والسلطات لدفع الناس للمزيد من التأزيم المُفضي للفوضى والتدمير؟ ما دفع لهذا التساؤل هو أن الانفجار إذا حصل لن يجد من يقوم بإطفائه لأسباب كثيرة: أولها أن الثقة أصبحت منعدمة تماما بين السلطات الحاكمة والناس ولا يمكن ترميمها وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل وقت سبق لأنَّ " الفتق اتسع على الراتق"، وثانيها أن تلك السلطات قامت بإخصاء أو إقصاء من كان أو مرشحا ليكون مؤثرا جماهيريا، وهذا أمر غاية في الخطورة لأنَّ يأس الناس من الاحتجاج السلمي قد يقود في لحظة اليأس تلك إلى لجوء المُفقَرين والمهمشين والعاطلين عن العمل إلى أفعال بعيدة عن السلمية والعقل بحيث تؤدي إلى القناعة " بهدم المعبد على رؤوس كل من فيه".
نعود إلى ناصر الزفزافي ورفاقه في المغرب أو أي مجموعة مناضلة في أي مزرعة عربية أخرى. الحكم الصادر بحقهم رسالة إلى الناس مفادها أن كل من يطالب بإنسانيته وكرامته ليس له من مصير إلا السجن والقمع أو الموت رميا بالرصاص أثناء المطاردة أو القتل تعذيبا أثناء التحقيق للحصول على إفادة تدينه، مستندين بذلك إلى نكتة " جعل الغزال يعترف أنه أرنب" المعبرة عن نهج وعقلية السلطات الأمنية العربية؛ وإلا فما معنى التهمة النكتة التي توجها تلك السلطات قاطبة بتقويض النظام العام وزعزعة الوحدة الوطنية لكل من يطالب بإصلاح سياسي واقتصادي يرى نفسه فيه إنسانا وليس " رعية" ؟ وما معنى توظيف المُدنَّس من مثل التخوين أو المقدس من مثل منع إقامة الصلاة وتفريق الجماعة والإفساد في الأرض من وزارة أحفورية تدعي النطق باسم الله لتعزيز سلطة لا تعرف من الدين إلا أنه أداة لاستعباد الناس؟
إفقار وتهميش واستبداد وفساد وقمع وإذلال، فهل أبقت السلطات "لرعاياها" منفذا للاحتجاج والمطالبة السلمية؟ القادم لا يُنبئ بخير.