Friday, October 27, 2017

مسلسل الخربة ولحظات التأزم الدرامي والسياسي



فتح كساب


لطالما كان الفن والأبداع من المحركات الرئيسية الداعية للتغيير والثورة على الواقع البائس الذي يعيشه الناس، سواء كان ذلك البؤس سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو كانت جميعها مجتمعة كما هو حالنا اليوم. وأعتقد أن الدراما التلفزيونية السورية، الكوميدية منها خاصة، كانت الأجرء في طرح حالة الـتأزم السياسي والاجتماعي والثقافي الرسمية والشعبية . فقد طرحت في قالب كوميدي نماذج لشخصيات موجودة في أوساطنا تعكس حالة الجهة التي تتمترس تلك الشخصيات خلفها.

فاستعراض سريع لشخصيات مسلسل الخربة يجعلنا نصنف الشخصيات ضمن ثلاثة نماذج رئيسية يتمحور العمل حولها في العموم.

فالنموذج الأول هو شخصيتي "أبو نمر" و " أبو نايف" وهما من عائلتين أو عشيرتين مختلفتين، وهما انعكاس لحالة صراعية مفتعلة لذاتها، لتكريس حالة تبعية الشخصية العشائرية البسيطة لرأس العشيرة دون تساؤل حول صدقية أو عواقب ما يطلبه رأس العشيرة أو العائلة. وكانت هاتان الشخصيتان هما الأبرز في تحريك أحداث المسلسل. وانحصرت أفعالهما في تأزيم الأمور وحلها تاليا بعيدا عن "أبناء العشيرتين" المُنصاعين لرغباتهما. وقد تميزت الشخصيتين بالتعصب والكذب الغير مبررين أللهم إلا لجهة بقاءهما تحت الأضواء دون حساب لعواقب ما سيحصل.

أما النموذج الثاني فهو النموذج المصطف خلف الجهات الرسمية، وعبّر عنه الكاتب في شخصيتي "جوهر" و "صيّاح". وتبدأ المفارقة في إسمي الشخصيتين الذين لا يعبّران لا من قريب ولا من بعيد عن مكنون الشخصيتين. فشخصية "جوهر" أو (مسّيح الجوخ) كما كان يطلق عليه أهل القرية، أو كما أطلق هو على نفسه في إحدى حلقات المسلسل؛ هو النموذج الأكثر انتشارا في المجتمع. وهذا النموذج تجسيد لحالةٍ فقدت الأمل في تحصيل الوجاهة العشائرية أو العائلية، فسلك الطريق الأقصر والأسهل وهو الانقياد الأعمى خلف السلطة الرسمية وحزبها آملا في تعويض ما فشل فيه في القرية من محاولة لإبراز ذاته داخلها. وانحصر دوره خلف السلطة ممثلة "بالرفيق بو طارق" بحضور التداشين والافتتاحات ووضع حجارة الأساس لمشاريع لم يستفد هو ولا قريته منها. وكان كل المطلوب منه هو التصفيق والتقاط الصور مع المسؤولين. أبرز ما ميّز شخصية جوهر هو قَسَمُه الدائم بعبارة "بعروبتي" عندما يريد تأكيد أو نفي فكرة ما أو استنكار أو تحبيذ سلوك ما. وهذه العبارة التي يُقْسِم بها تعكس المفارقة الثانية في شخصيته. فهو عشائري حتى النخاع في القرية ويصطف دائما مع عمه "أبو نايف" في صراعه مع " أبو نمر" لتلبيس العشيرة المنافسة الخازوق تلو الخازوق حسب تعبيراتهم، بينما هو مع "أبوطارق" مسؤول حزب السلطة في المنطقة ، عروبي ويؤمن بالقومية العربية إيمانا لا حد له.

اما الشخصية الثانية ضمن هذا النموذج فهو صيّاح مدير المدرسة. والصيّاح في الثقافة الريفية هو الديك الذي يوقظ الفلاحين للخروج إلى الحقول لإنتاج ما تتم به الحياة. لكن هذا الصيّاح جعجعة بلا طحن. فهو الشخصية المتمسكة بالأصول وحرفية القانون والنظام بطريقة "لا غبار عليها" كما يقول دائما. وهو صاحب ثقافة مُستَمدة من جريدة السلطة. وهو النموذج الذي يختبأ خلف الطقم العصري وحرفية القوانين، لكنه يختزن في داخله حالة من التخلف تجعله لا يختلف عن أبو نايف أو أبو نمر إلا في الشكل، كما وصفه غطاس.

أما النموذج الثالث فهو الحزبي أو نموذج المعارضة. وتم التعبير عن هذا النموذج في ثلاث شخصيات هي "ملحم وجميل وغطّاس". ويتمحور "فكر" جميل وملحم إن جاز القول في محورين نضاليين هما محور النضال ضد "الإمبريالية" التي عرّفها جميل بأنها " نظام سياسي حقير فيش أحقر منّا أحقر من الإسهال في المدينة" في الحوار "التثقيفي" الذي جرى بين جميل وطارق، الذي قام جميل باستقطابه ليكون معه في الحزب. والنضال ضمن هذا المحور هو الأقوى لفظيا. أما المحور النضالي الثاني فهو الداخلي في القرية . وهو حالة لفظية خجولة تعمد إلى الانسحاب عند أول حالة مواجهة فعلية مع أبو نايف أو أبو نمر. أما غطّاس فهو الحالة الشبابية المتمردة على "إرث الحزب النضالي" والذي استقال واعتكف دون أي مقاومة بعدما اصطدم مع "إيديولوجيا" الحزب وكوادره وانتهت المواجهة بتوجيه اتهامات له من قبيل أنه "ديمقراطي اشتراكي".

واللافت في الأمر أن باقي الشخصيات في القرية كانت تُظهِر بين الفينة والأخرى حالة تمرد أو محاولات تَفلُّت من الواقع الصراعي العائلي؛ لكن الشخصيات "التقدمية" لم تكن قادرة على المبادرة والتقاط تلك اللحظات للبدء بتغيير إيجابي ولو بسيط؛ بحجة أن قيادة الحزب لم تكن راغبة بالدخول "في اصطفافات تُفقِد الحزب جماهيريته".! والواقع أن قيادة الحزب لم تكن تريد أي شكل تغييري خارج إطار القالب الذي وضعت نفسها فيه خوفا على سلطتها التي توهمت وجودها مع طول اجترار وتكرار مظلوميتها ونضالاتها الدونكيشوتية.

تبدأ حالة التأزم الدرامي في الحلقة السابعة والعشرين والمعنونة "النقاط على الحروف". ويبدأ ذلك التأزم " توفيق" ضد تسلط زوجته ووالدها عليه. حيث يقوم بتوجيه شتائم من عيار خفيف مصحوبة بصراخ حاد وحركات  غاضبة من يديه وعينيه ثم يهرب من البيت. يتمرد بعده جوهر على عمه "أبو نايف" ويغادر القرية هو أيضا. تلتقي الشخصيتان في سيارة الأجرة التي يملكها "المناضلان جميل وملحم" ويبدآن بسرد طويل ممل حول ما جرى معهما. وفجأة تبدأ لحظة الانفجار عند جميل حول الحزب وما يجري فيه. ويتحول المشهد إلى حوارات مترددة بين جميل وملحم تنتهي بتقديم جميل لاستقالته من الحزب موبخا "الحزب" على نضالاته الوهمية ضد الإمبريالية بينما النضال الحقيقي يجب أن يكون ضد التخلف والتحجر في الداخل. وتنهار كل دفاعات ملحم البائسة أمام حجج جميل. والمشهد التالي يعطينا فكرة عن حجم الوهم الذي عاشته الأحزاب "المعارضة" وما وصلت إليه من هزال وتحلل لهياكلها وبناها الداخلية:

جميل : ملحم هون ؟

نجية: إي خيي، جميل هون.

ملحم: تفظل، تفظل فوت................ أهلين جميل تفظل.

جميل: إمسك.

ملحم: شو هاي؟

جميل: إقراها بتعرف.

ملحم: استقالتك من الحزب يا جميل؟!

جميل: إي استقالتي من الحزب. بتحب تعرف ليش؟

ملحم: ليش؟

جميل: لأن الحزب تارك كل شي بده نضال ولاحق الإمبريالية. بتحب تعرف ليش كمان؟

ملحم: وك ليش؟

جميل: لأنه الإمبريالية فيك تناضل ضدها بدون ما حدا يدقرك، وحتى بتنحسب لك كمان. بس هون (القرية) بدّا تضحيات من قِبلنا. بدّا اتخاذ موقف وهذا اللي نحنا مش قادرين نعمله. عرفت ليش إسّا؟

ملحم: هذا الكلام مردود عليك. نحنا قدمنا تضحيات ، فهمت؟

جميل: فعل ماضي ناقص! نحنا كل ما حدا حكى كلمة حق بنزته برّه. غطّاس حكى كلمة حق صار عميل للديمقراطية الإشتراكية، ونحنا نُصنَا بيعرفش شو هي الديمقراطية الإشتراكية. وطارق إجا لعنّا ما كانش ناقص غير شوية ثقافة نثقفه، كان صار جيفارا الثاني. حطيناه في قالب وكبسناه  بالملزمة . هذا كلام فاضي.

نجية: خيي إذا منشان فلوديا الله بيبعث لها نصيبها. تكبِّرش الشغلة.

جميل: لا يا نجية لاء. أني مش منشان فلوديا. فلوديا مش خايف عليها. ولِك أنا منشان هالموقف المتخلف. إذا بو نمر وبو نايف خلّو القيادة تاخذ موقف، ولك شو بده يصير بهالقيادة إذا انحطت تحت أمر محرز.

ملحم: الزام حدّك وتحكيش كلام أكبر منك.

جميل: ملحم تزعلش مني، أني بجوز بفهمش مثل غيري؛ بس الشغلة بدّاش فهم، الحمار بيفهمها. إحنا فيش عنّا موقف من شي يا ملحم، من زمان في شغلات لازم ناخد منّا موقف. كل شي بنحطه برقبة هالإمبريالية، ولك الإمبريالية حقيرة فيش أحقر منّها. بس في شغلات بدّا موقف.

ملحم: شوف جميل بدّي أعطيك مهلة لبكرة الصبح؛ بس كرمال العِشرِة النضالية إللي بينّا.

جميل:تعطنيش فرصة. أني تلفنت وخبّرتم فوق. وقلت له ورقة الطلاق بتوصلكم مع ملحم. عن إذنك.

ملحم: ويتساقط الورق الأصفر، وعلى الأفنان يبقى الورق الأخضر.

نجية: والله شايفتلك وك يا زلمة مظلش ورق أخضر هاه، صِفت السجرة بالزلط كأنّا.

ملحم: أني بسمح بكل أنواع الحكي إلا هذا الحكي بسمحش فيه. لا تخليني آخذ موقف منِّك هاه.

نجية: إيه! ما عادتش تفرق.



يكشف الحوار السابق حالة البؤس السياسي والثقافي والفكري الذي تعيشه أحزاب  المعارضة العربية. فعلى الصعيد السياسي تحول العمل السياسي من حالة الاشتباك السياسي مع السلطة إلى حالة من الاستعراض تمحور حول البيانات ومهرجانات الانطلاقة والتأبين. أما نشاطات الكوادر السياسية فتحّولت إلى حالة من النضال الاحترافي، أي أن النضال أصبح مهنة لاتتطلب بالضرورة السعي للإصلاح والتغيير الإيجابي وإنما إدامة السجال اللفظي بعيدا عن أي إنجاز فعلي على الأرض. أو حالة من الاستعراض أو البريستيج وشكل من أشكال الوجاهة الاجتماعية أمام الحالة العشائرية.  أما الحالة الثقافية في تلك الأحزاب فتلخصها عبارة جميل عندما قال " غطّاس حكى كلمة حق صار عميل للديمقراطية الإشتراكية، ونحنا نصنا بيعرفش شو هي الديمقراطية الإشتراكية". وهذ يعكس حالة بؤس معرفي تقول صراحة أن من ينظّرون باسم تلك الأحزاب ما هم إلا ببغاوات تردد عبارات حفِظتها دون أدنى فهم لمضامينها. وأخيرا وعند استعراض الحالة الفكرية لتلك الأحزاب نجد أنها بقيت مُستَهلِكة للفكر الذي أُسست عليه ولم تُضف له جديدا، لا بل لم تحاول مراجعة ما تجاوزه مبدعي الفكر الأصليين. وهذا ما عبّر عنه جميل صراحة حين قال " وطارق إجا لعنّا ما كانش ناقص غير شوية ثقافة نثقفه كان صار جيفارا الثاني. حطيناه في قالب وكبسناه  بالملزمة". فالقالب هو المعادَل الصريح للجمود.

بعد كل هذا العرض للعمل الإبداعي الذي قدّمه الكاتب ممدوح حمادة، أعتقد أن الكاتب حاول  تمرير الخلاصة التي تقول ما يلي:

إن كل ما نمر به من حالة جمود وتخلُّف وتراجع على كافة مناحي الحياة مردُّه إلى حالة من التحالف الضمني أو الصريح بين الاجتماعيي مُمَثلا بالعشائرية وصراعتها الصغيرة فيما بينها للتنافس على الجغرافيا الصغيرة أو المكتسبات المالية والوظيفية وصولا للتنافس على رضا السلطة. والسياسي متمثلا بشقيه السلطوي المسيطر والمعارض ممثلا بالحزب القامع لكل مبادرة تغيير أو تطوير داخلية، والعاجز عن التصدي لحالات التقوقع الاجتماعي التي تقود إلى مزيد من التخلف وكذلك عجزه عن مواجهة السلطة السياسية القامعة للجميع.

كل هذه الإشكاليات تطرح مسألة غاية في الخطورة وهي القدرة على التواصل وطرح المفاهيم العصرية للخروج من فخ القوقعة ورؤية الذات المتخلفة مركزا للكون في مفارقة لا أعتقد أن ثقافة مرّت بها يوما وبالحدة التي هي عليه في ثقافتنا.

فالعشائرية تُغري أبناءها بالمكتسبات الآنية وتحصيل الحقوق وما هو فوق ذلك في حال ضاعت تلك الحقوق نتيجة للمحسوبية أو غيرها من الأسباب. وكذلك توفر لهم الحماية عند عجز السلطة عن تقديم الحماية لهم لسبب أو لآخر. وأما السلطة السياسية فلديها من الأدوات ما يمكنّها من مخاطبة الناس ترغيبا أو ترهيبا لتضمن ولاءهم أو على الأقل خضوعهم لها والصمت على كل الأخطاء والتجاوزات التي تقوم بها.

يبقى خطاب المعارضة الذي تقوقع على ذاته وتخشّب وانحصرت نضالاته في الاحتفالات وبيانات الشجب والاستنكار وغيره من صور الاحتجاج السلبي. واكتفى "بنخبته" الحزبية بعيدا عن التفاعل اليومي والحقيقي مع "الجماهير" وفقد كل صلة بهم، لا بل فقد ثقتهم به بشكل مُطّلق، إن جاز الإطلاق. ثم تحَّول سلوك تلك الأحزاب إلى ما يمكن تسميته "بالأميبية السياسية". فهي بلا شكل في حالات الاسترخاء؛ وهي قادرة على تشكيل أقدام كاذبة أن تطلّب الأمر هروبا من أي استحقاق سياسي أو ثقافي أو اجتماعي. والأميبا وحيدة الخلية وعندما تنقسم تُنتج كائنا جديدا وحيد الخلية. وهذا ينطبق على الأحزاب أيضا؛ فهي ذات فكر أحادي أشد انغلاقا من منظومة السلطة والمكونات الاجتماعية. وكل ما تُفرِّخ من أحزاب يكون صورة مطابقة للأصل.

هل باتت مجتمعاتنا عصية على انتاج الفكر والدخول في العصر؟ وهل أصبحنا في قطيعة مع النقد الذي يضع أيدينا على مكامن الداء ووصف الدواء؟ وهل عجزت الأحزاب عن حتى توصيف الحالة البائسة التي نعيشها وتصدى الإبداع الأدبي والفن لهذه المهمة ونجح فيها إيما نجاح؟   
  
24\10\2017

Friday, October 13, 2017

مما كتبه ابن بطوطة بعد وفاته



مما كتبه ابن بطوطة بعد وفاته.
فتح كساب
ومن أعجب ما رأيت عند أهلي من البصرة إلى طنجة في طريق عودتي ، والذي لم أكن ألحظه قبل رحلتي، ما يقبله الناس سرا ويلعنونه في العلن من مثل:
أنهم جميعا، وبالأخص عوامهم، يلعنون الفساد والمفسدين. لكنهم إذا خلوا إلى أنفسهم دعوا الله مخلصين أن يطيل في عمر الفاسدين وأن يديم نعمة الفساد عسى أن تدور الأيام وتكون لهم حصة منه.
ومن عجيب النفس العربية أنه إذا قام أحد المتهمين بالقرب من أولي الأمر أو حاشيتهم بالاتصال سرا أو الجلوس علنا مع أي جهة من أعداء الأمة ، أوسعوه شتما وتخوينا، لكنهم إذا حانت لحظة انتخابات أعادوا انتخابه لأنه حسب زعمهم الأقرب للحكومة والأقدر على خطف حصة لهم من كعكة الفساد المتأصلة. أما إذا قام بنفس الفعل أحد أصحاب اللحى، أو كما يسمونهم "الأيدي المتوضأة"، فالصمت سيد الموقف. وإذا ناقش أحد ذلك مع العوام فهذا هو الكفر عينه ولا شيء سواه. وكأن لسان حالهم يقول لا بأس بالتطبيع المقدس، لكن ما عداه فهو الدنس لا غير.
ومما سمعت وشاهدت كذلك، تأمين المصلين يوم الجمعة لدعاء الإمام للحكام وبطانتهم بطول العمر وسداد الرأي. لكنهم إذا غادروا مسجدهم اتهموا إمامهم بالنفاق وشتموا أمه أو أخته بأقذع ما يمكن من الكلمات. وإذا حضروا اجتماعا عاما أو احتفالا هتفوا للقائد الملهم وكادوا أن يسجدوا له. ويبطشون في لحظة الانفعال تلك بكل من تسول له نفسه المساس بألوهية أو قداسة القائد الرمز ، ويعزون ما يتعرضون له من نهب وبطش إلى البطانة الفاسدة التي ينخدع بها القائد كل مرة يعيد تعيين أحد أولئك البطانة في منصب عام، جريا على التساؤل الشعبي السائد ( وهو طويل العمر يدري؟ لو كان يدري كان خوزقهم). لكني لم أرَ من المُخَوزَقين سوى ضعاف الناس وأولئك المطالبين بالإصلاح والعدل.
أما أهل الحل والعقد فيهم، فحدث عن البحر ولا حرج. وهم على أصناف ثلاثة. فالأول هم من سوّغوا البطش والفساد لمن يسمي نفسه الممانع للأعداء، والصنف الثاني الذين سوّغوا البطش والفساد للحفاظ على الأمن والأمان. أما الثالث فهم الذين لم يقبلوا من هؤلاء ولا أولئك مسوغا، وينهال عليهم وابل التكفير والتخوين والعمالة من أولي الأمر وأهل الحل والعقد، حتى صار العوام يرونهم من مردة الشياطين. وأخيرا ظهرت فئة جديدة لا يمكن إدراجها مع العوام ولا أهل الحل والعقد، وهم مختلفون في لباسهم وزينتهم. فهم لامعون شكلا، ألسنتهم سريعة بالتبرير، قادرون على تحريف الكلم عن مواضعه دون أدنى درجات تأنيب للضمير. يبررون بيع البلاد واستعباد العباد وكل ما يقولون وما يفعلون ، حتى لوكان منافيا لما يراه أو يؤمن به العباد، كل ذلك يرونه وجهة نظر لا تستوجب اندهاشا ولا استهجانا.
وأعجب ما رأيت ، ولم أره عند غير العرب، هو دعائهم بخراب الديار وتشتيت الشمل وجفاف الضرع وحرق الزرع لمن هو مخالف لهم. والمخالفة قد تكون في الدين أو في المذهب لأهل الدين الواحد. وقد تكون المخالفة في نوع اللباس أو الطعام الذي يلبسه أو يأكله أولئك المخالفون. ورغم ذلك تراهم يهرعون زرافات ووحدانا يطلبون إذن دخول لبلاد أولئك المخالفين للعيش معهم والعمل لديهم . فإذا وصلوا تلك البلاد واستقامت لهم الأمور وصموا أهل تلك البلاد بالكفر والانحلال وغير ذلك من قبيح العبارة. وهم من أكثر الخلق حديثا عن الأخلاق ولا يفعلون ما يطابق حديثهم. فعند سادتهم "أعذب الشعر أكذبه"، وعند عوامهم "الكذب ملح الرجال". وهم يبيحون لأبنائهم ومن هم عزيزين عليهم فعل كل ما يحلوا لهم سرا، ويعيبون على غيرهم إن كُشِف أمرهم. والحلال ما حلَّ في أيديهم والحرام ما طار إلى أيدي غيرهم. والأخلاق للتَّزيُّن لا للعمل. فسبحان الذي له الدوام وله الأمر من قبل ومن بعد.
في عام ما في شهر ما في يوم ما.

هل الإنسان حر؟



 
أشغل هذا السؤال حيزا كبيرا بين المفكرين والفلاسفة الأوائل واللاحقين كما كان أحد محاور الجدل الكبيرة في الد

يانات المختلفة. وما تم كتابته إجابة لهذا السؤال كان هائلا بحيث يصعب الإلمام به.
لو تتبعنا مراحل تطور الإنسان لوجدنا أنه كان حرا في قرار الترحال والإقامة في الفترة البدائية، لكنه كان عبدا لخوفه من عناصر الطبيعة وحيواناتها الضارية إضافة لسؤال ما بعد الموت. أما في فترة الاستقرار الزراعي وتدجين الحيوانات وظهور الديانات الأولى، فقد تحرر الإنسان من خوفه فيما يخص توفير الطعام وأصبح عبدا لجوانب أخرى مثل القوانين التي نظّمت علاقته بالأرض والسماء والبشر الذين تولوا تسويق فائض أنتاجه الزراعي. وازداد الأمر سوءا بعد نشوء الدول واضطراره للتخلي عن مزيد من حرياته الفردية والاندماج في الذات الجماعية، وهذا جعله عرضة للقتل أو السجن أو الاستعباد إذا لم يقايض حريته الطبيعة بالأمان الذي توفره تلك الدول.
أما فترة الثورة الصناعية وما بعدها فقد تحول الإنسان عبدا لعمله ولصاحب المصنع الذي يوفر له العمل. وفي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين أصبح هذا الكائن عبدا لكل ما تقدم ذكره مضافا إليه وسائل الاتصال الحديثة بحيث وصل حالة من الإدمان يحتاج معها للخضوع للعلاج.  ورغم كل الثورات التي قامت لتحرير الإنسان من قيود عبوديته المختلفة، إلا أنه في مقابل كل مكتسب يحصل عليه كان يخسر أضعاف ما ربحه. وهو ما يعيده إلى المربع الأول.
وختاما أقول أن الأنسان لم يكن يوما حرا بالمعنى المطلق للحرية وبالتالي كانت كل حياته عبارة عن دائرة مغلقة من الصراع من محاولات التحرر المفضية للفشل باستمرار. وما تراكم لدينا من معرفة حول التاريخ يُظهر لنا ميل هذا الكائن للاستكانة والميل للاستقرار على حساب حرياته المُتمناة أو المُتخَيلة. فمن إسمه إلى دينه والثقافة المجتمعية المزروعة في دماغه، كلها إلزامات لم يكن له فيها أي خيار. فماذا تبقّى من حريته؟