Saturday, September 5, 2020

 

السلطة المجنونة تقتل مهمشيها 

فتح عبدالفتاح كساب

 

لم أستطع تمالك نفسي من الغضب عند سماع خبر صدور حكم بالسجن لمدة عشرين عاما على المناضل المغربي " ناصر الزفزافي" ورفاقه الذين شاركوه نضالاتهم المطلبية بالتشغيل والتنمية في منطقتهم في الريف المغربي - المنطقة الأكثر تهميشا والأشد فقرا في المغرب، بتهمة (تقويض النظام العام والمساس بالوحدة الوطنية).ولمن لا يعرف الريف في المغرب يكفي أن نقول أن المناضل أو المجاهد عبدالكريم الخطابي الذي قاد الثورة ضد الوجود الفرنسي والإسباني الاستعماري كان من الريف المغربي كما الزفزافي، فالمفارقة هنا عجيبة لا يمكن فهمها وهي أن ذات المنطقة التي خرجت للمطالبة بالكرامة والعدالة والتنمية هي ذات المنطقة التي ثارت بوجه المستعمر وأعادت للدولة استقلالها وكرامتها. والوجه الآخر للمفارقة هو أن هذه المنطقة هي الأكثر تهميشا وحراكاتها الأكثر تعرضا للقسوة والبطش. هل هذا هو ثمن الوطنية والحس بالإنسانية والكرامة؟
نعود للمناضل ناصر الزفزافي ونلخص ما حدث له قبل السجن:
ناصر الزفزافي، لمن لا يعرفه، ناشط مغربي قاد الاحتجاجات أيام قام شرطي مغربي بطحن مواطن مغربي مع أسماكه المعروضة للبيع في طاحنة قمامة. الناشط المذكور تمت مطاردته والقبض عليه بسبب مقاطعته لخطيب الجمعة في مدينة الحسيمة، بعد أن قام الخطيب بتوجيه اتهامات للمحتجين بإثارة الفتنة التي ستقود المغرب لما آلت إليه الأمور في العراق وسوريا. ووصل شعور الحكومة بالتهديد أن قامت وزارة الأوقاف المغربية بإصدار بيان في نفس اليوم، اتهمت فيه الزفزافي بإفساد الجمعة والإساءة للجماعة. وختمت الوزارة بيانها بالآية التالية ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها). مع العلم أن الزفزافي كان في المسجد، كالمعتاد، لأداء الصلاة دون علم مسبق بما سيقوله الخطيب.
وكما هو واضح، لم تكن حجة السلطات في مطاردته والقبض عليه كافية تحت أي مسمى جنائي فاستعانت بأحد أضلاع الحكم الثلاث التي تُسنِد السلطات العربية، ألا وهو ضلع "الدين"، حيث استعانت وزارة الأوقاف المغربية بكل الفتاوى السياسية التي كبَّلت المعارضين في عهود الحكم العربي قبل ألف وأربعمئة عام وحتى الآن لتبرر للحكومة القبض عليه والتنكيل بحراكه المطالِب بالعمل والعدالة في التنمية.
والسؤال اللغز هنا: هل ما تقوم به النظم العربية من تمادي في الاستبداد والفساد والتنكيل بالحراكيين المطالبين بالعدالة والديمقراطية والتوزيع العادل للتنمية والفرص والثروة الوطنية نابع من استخفافٍ "برعاياها" أم هو التعامي عن حالة من التأزم والضغط الشديدين المؤديان إلى الانفجار؟ وهل ما زالت تلك السلطات مؤمنة أن ما تقوم به من تبديل للوجوه بعيدا عن جوهر السياسات التي تنتهجها ينطلي على الناس؟ الغريب في الأمر أن رؤوس السلطات العربية تتبجح دائما بالدعوة للإصلاح ومحاربة الفساد، لكن ممارساتهم على الأرض لا تشي بذلك. فالنظم والقوانين الانتخابية يتم تفصيلها لإيصال نوعية محددة من الشخصيات التي تتماهى بالمطلق مع السياسات المتبعة لتكريس المزيد من الإفقار والإذلال للناس، مترافقة مع تعزيز منظومات الفساد والاستبداد والنهب المبرمج لمقدرات الأوطان. وحتى عند السماح بالعمل العام عبر منظومة حزبية، تكون تلك الأحزاب ديكورية ولا تمتلك الحد الأدنى من القدرة على مجرد التفكير بالتواصل مع من تسميهم " جماهيرها الشعبية". فعند تشكُّل تلك الأحزاب تكون موزعة محاصصةً ما بين حصة للأجهزة الأمنية وحصة لرأس السلطة وما تبقى من العضوية لا يعدو كونه مجرد كومبارس للتصفيق "لأمين الحزب المُلهَم" وسياساته الوطنية المتوازنة وقدراته الخارقة للبقاء على رأس الحزب حتى الممات رغم كل "المؤامرات الداخلية والكونية التي تُحاك ضده"! فحتى المخارج التي تطرحها تلك السلطات لا تزيد الوضع إلا تأزيما واحتقانا.
السؤال الكبير الآن، هل تسعى تلك النظم والسلطات لدفع الناس للمزيد من التأزيم المُفضي للفوضى والتدمير؟ ما دفع لهذا التساؤل هو أن الانفجار إذا حصل لن يجد من يقوم بإطفائه لأسباب كثيرة: أولها أن الثقة أصبحت منعدمة تماما بين السلطات الحاكمة والناس ولا يمكن ترميمها وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل وقت سبق لأنَّ " الفتق اتسع على الراتق"، وثانيها أن تلك السلطات قامت بإخصاء أو إقصاء من كان أو مرشحا ليكون مؤثرا جماهيريا، وهذا أمر غاية في الخطورة لأنَّ يأس الناس من الاحتجاج السلمي قد يقود في لحظة اليأس تلك إلى لجوء المُفقَرين والمهمشين والعاطلين عن العمل إلى أفعال بعيدة عن السلمية والعقل بحيث تؤدي إلى القناعة " بهدم المعبد على رؤوس كل من فيه".
نعود إلى ناصر الزفزافي ورفاقه في المغرب أو أي مجموعة مناضلة في أي مزرعة عربية أخرى. الحكم الصادر بحقهم رسالة إلى الناس مفادها أن كل من يطالب بإنسانيته وكرامته ليس له من مصير إلا السجن والقمع أو الموت رميا بالرصاص أثناء المطاردة أو القتل تعذيبا أثناء التحقيق للحصول على إفادة تدينه، مستندين بذلك إلى نكتة " جعل الغزال يعترف أنه أرنب" المعبرة عن نهج وعقلية السلطات الأمنية العربية؛ وإلا فما معنى التهمة النكتة التي توجها تلك السلطات قاطبة بتقويض النظام العام وزعزعة الوحدة الوطنية لكل من يطالب بإصلاح سياسي واقتصادي يرى نفسه فيه إنسانا وليس " رعية" ؟ وما معنى توظيف المُدنَّس من مثل التخوين أو المقدس من مثل منع إقامة الصلاة وتفريق الجماعة والإفساد في الأرض من وزارة أحفورية تدعي النطق باسم الله لتعزيز سلطة لا تعرف من الدين إلا أنه أداة لاستعباد الناس؟
إفقار وتهميش واستبداد وفساد وقمع وإذلال، فهل أبقت السلطات "لرعاياها" منفذا للاحتجاج والمطالبة السلمية؟ القادم لا يُنبئ بخير.

2018 / 6 / 28 

Friday, September 4, 2020

 



الغجر والعوام بين شكسبير وعرار

فتح كسّاب

ليس سهلا الحديث عن شخصيتين مثل شاعرنا عرار(مصطفى وهبي التل)  أو الكاتب المسرحي الإنجليزي شكسبير، لأن ما كُتب عن شكسبير مثلا وبدون مبالغة يكاد يصل إلى مكتبة فيها من الكتب والأبحاث والدراسات ما لم يترك شاردة ولا واردة في أعماله إلا وتم التطرق إليها. أما عرار، فمن وجهة نظري، فإنه لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث لا على المستوى الوطني ولا على المستوى العربي. فقد كان شاعرنا من أوائل من نظموا شعر التفعيلة في العالم العربي. لكني سأتطرق أولا إلى أوجه الشبه بين الأديبين:

 حيث ولد واشتهر كلاهما في فترة من الاضطراب السياسي في بلديهما. عاش شكسبير في إنجلترا التي كانت تمر بمرحلة من الانقسام المذهبي والاضطراب الداخلي بعد انشقاق الملك هنري الثامن عن الكنيسة الكاثوليكية ما أغرى فرنسا بغزوها ومحاولة احتلالها. لكن حنكة وطول نفس الملكة إليزابيث مكنها من التخفيف من حدة الصراع الداخلي ومجابهة الخطر الخارجي وبدء البناء لإنجلترا قوية. أما عرار فقد عاش شبابه في فترة إعلان دولة شرق الأردن ووضعها تحت سلطة الانتداب البريطاني وما سبق ذلك من اضطرابات نتجت عن إعلان حكومات محلية وما تبع بعد ذلك من محاولات سلطة الانتداب فرض حالة من الاستقرار وتوطين سكان شرق الأردن من البدو الرحل. أما وجه الشبه الثاني هو أن كلاهما كتب شعرا حيث إنّ عرار كان شاعرًا فيما كتب شكسبير أعماله المسرحية شعرا، إضافة إلى ما كتب من ألوان الشعر  وأشهرها السونيت.

أما على صعيد الاختلاف بين الشخصيتين فسأتطرق إلى أمرين هما: نظرة كل منهما إلى المختلف عرقيا وثقافيا وسأخصص هذا الجزء للغجر عند شكسبير والنَّور عند عرار. أما الاختلاف الثاني فسأخصصه لموقف كل منهما من العوام أو الشعب عموما.

ولنبدأ بشكسبير والغجر.

في الخطاب الافتتاحي لمسرحية أنطونيو وكليوباترا يلقي الجندي الروماني فيلو على الجمهور مقدمة مهينة عن الملكة المصرية، التي لم تظهر ولم يُقدَّم اسمها بعد، قائلا:

Upon a tawny front: his captain's heart,
Which in the scuffles of great fights hath burst
The buckles on his breast, reneges all temper,
And is become the bellows and the fan
To cool a gipsy's lust.(1)

 

وأن قلبه المغوار الذي كان يفتق الدرع على صدره

في معمعان المعارك المشهودة يأبى الآن أن يكبح لنفسه جماحا

حتى لقد غدا كالكير أو المروحة يبرد شهوة غجرية(2)

لا يعطي وصف "الغجرية الشهوانية" انطباعا جيدا عند القراء عن كليوباترا. ولتبيان الأمر لا بد من العودة لدلالات الكلمة في ذلك الزمن.

هناك ثلاثة معانٍ لكلمة ‘gypsy’ في الإنجليزية الحديثة المبكرة وليس لأي منها ما يعطي انطباعا إيجابيا.الأول شبه عرقي للدلالة على الأصل أو العرقية المصرية. وتعود جذوره إلى الأصل اللاتيني  Aegyptius  والذي وصل إلى الإنجليزية الوسيطة باللفظة gipcyan وهذا الاشتقاق المُضلِل يحور الكلمة من مدلولها الأصلي إلى معنى جديد يفيد أن المصريين مجموعة عرقية مشكوك فيها أخلاقيا، وهو أمر ينبع من الموقف الاستعماري الروماني  الذي يتسم بالدونية تجاه شعب  مصر التي أصبحت مقاطعة خاضعة للإمبراطورية الرومانية. وفي هذا السياق يتم تصوير المصري على أنه الآخر أو المضاد للروماني المنظم المتحضر.أما الثاني فيشير إلى الشعب دائم الترحال وهو المعنى الدارج حتى يومنا هذا. والأخير الذي يشير إلى الدلالة الأقل احتشاما أي "العاهرة الشهوانية"(3)، وهو المعنى المقصود في مقدمة فيلو في بداية المسرحية.

والملاحظ في هذا التقديم لمعنى كلمة غجر هو التحامل والنظر بدونية إلى آخر معادي دون النظر إلى ثقافته مهما كانت مقارنة بالثقافة الرومانية أو الإنجليزية في ذلك العصر. استخدم شكسبير كلمة ""gypsy  في مسرحياته ثلاث مرات. حيث وردت في مسرحية روميو وجولييت مرة واحدة لوصف كليوباترة، ومرتين في مسرحية أنطونيو وكليوباترا مرة لوصف كليوباترة وأخرى وصفا لمصر مترافقة مع عبارة  " روح مصر الخائنة".

Betray'd I am:
O this false soul of Egypt! this grave charm,—
Whose eye beck'd forth my wars, and call'd them home;
Whose bosom was my crownet, my chief end,—
Like a right gipsy, hath, at fast and loose,
Beguiled me to the very heart of loss.
(4)

 إني ضحية الخيانة فيا ويلي من روح مصر الخائنة.

ويا ويلي من سحرها الفتاك الذي اجتذبني بلمحة من عينها

فقادتني إلى الوغى ثم قادتني إلى عقر دارها حيث وجدت في أحضانها ثوابي وأعز رغابي

لقد خدعتني كالغجرية الأصيلة ولعبت بي حتى انتهيت إلى دمار ليس بعده دمار.(5)

أما فيما يخص نظرة شكسبير إلى العوام فتتلخص بالكلمة التي كان يصف بها أولئك الفئة من الناس حيث استعمل كلمة crowds لوصفهم، وخاصة في المسرحيات الرومانية. ولفت الكثير من الباحثين إلى أنها مرادفة لكلمة mobs وهي كلمة غير لائقة أبدا ويمكن ترجمتها إلى العربية بكلمة رعاع. يرد هذا المعنى في مسرحية يوليوس قيصر حيث الحشود أو الرعاع (الجبناء) يموتون مرات عدة قبل موتهم أما الشجعان فلا يموتون إلا مرة واحدة.

“Cowards die many times before their deaths; The valiant never taste of death but once.”

وفي مشهد الجنازة يصور شكسبير "المواطنين" على أنهم دمويون ويفتقرون لأدنى حس بالمنطق ويظهر ذلك في الحوار الذي دار بينهم وبين "سينا" CINNA الشاعر. فعندما يعرفون اسمه يصيح أحدهم " مزقوه إنه متآمر" وعندما يستدرك سينا الموقف ويخبرهم أنه الشاعر وليس المتآمر، يصيح آخر " مزقوه لرداءة شعره".

كما استخدم الصفة plebeian لوصف عامة الناس في مسرحياته. وهي كلمة مشتقة من الأصل اللاتيني plebeius والتي تشير إلى الشخص الجلف أو السوقي أو المبتذل. وقد استخدمها تسع مرات في أربع مسرحيات هي أنطونيو وكليوباترا وكورليونيس وهنري الخامس وتيتوس أندرونيكوس.

تكشف هذه الأمثلة نظرة التعالي على العوام التي مارسها شكسبير بحقهم، لكنه مارس العكس تماما مع الطبقات الحاكمة وهذا انحياز صريح للسلطة ضد الفقراء والمهمشين في مجتمعه.

بالنسبة لعرار كان الأمر على العكس تماما . فقد نظر إلى النَّور نظرة مختلفة. وقد عبّر عن ذلك في شعره صراحة. فهم بالنسبة له متساوون مع الباقين. ومثال ذلك قصيدة "العبودية الكبرى" حيث يقول:

يا مدعي عام اللواء   وأنت من فهم القضية

الهبر جاءك للسلام      فكيف تمنعه التحية

ألأن كسوته ممزقة            وهيئته زرية

قد صده جنديك الفظ       الغليظ بلا روية

وأبى عليه أن يراك    فجاء ممتعضاً إِليه

يشكو الذي لاقاه من   شطط بدار العادلية

ويقول إن زيارة الحكام      لا كانت بلية

فاسرع وكفر يا هداك  اللّه عن تلك الخطية

وأدخله حالاً للمقام     وفز بطلعته البهية

ودع المراسم والرسوم لمن عقولهم شوية

فالهبر مثلي ثم       مثلك أردني التابعية

كما رأى فيهم نموذجا للمساواة والبعد عن الطبقية وانتفاء الفوارق بين الجميع ويظهر ذلك في قصيدته " بين الخرابيش"

بين الخرابيش لا عبد ولا أمة  ولا أرقاء في أزياء أحرار

ولا جناة ولا أَرض يضرجها     دم زكي ولا أخاذ بالثار

ولا قضاة ولا أحكام أسلمها   برداً على العدل آتون من النار

ولا نضار ولا دخل ضريبته تجنى   ولا بيدر يمنى بمعشار

بين الخرابيش لا حرص ولا طمع ولا احتراب على فلس ودينار

الكل زط مساواة محققة تنفي        الفوارق بين الجار والجار

أما عن نظرته إلى فقراء الشعب فقد جسدها شعرا في العديد من قصائده وكان واضحا في انحيازه لهم أمام استقواء السلطة وإذلالها للناس . يظهر ذلك في قصيدته " عفا الصفا وانتفى من كوخ ندماني"

عفا الصفا وانتفى من كوخ ندماني    وأوشك الشك أن يودي بإيماني

شربت كأساً ولولا أنهم سكروا      بخمرتي وسقاني الصاب ندماني

لقلت يا ساق هلا والوفاء كما ترى      تنكر هلا جدت بالثاني

سيمت بلادي ضروب الخسف وانتهكت   حظائري واستباح الذئب قطعاني

وراض قومي على الإذعان رائضهم    على احتمال الأذى من كل إنسان

فاستمرأَوا الضيم واستخذى سراتهم      فهاكهم يا أخي عبدان عبدان

وإن تكن منصفاً فأعذر إذا وقعت    عيناك فينا على مليون سكران

إليكها عن أبي وصفي مجلجلة         أبا فلان وما قولي ببهتان

هلا رعيت رعاك اللّه حرمتنا     هلا جزيت تفانينا بأحسان

مولاي شعبك مكلوم الحشا وبهم من غض طرفك والاهمال داءان

وفي قصيدة "إخواني الصعاليك" يعرّض عرار بالمرابين ويصرح بتحالفهم مع السلطة ونقمته عليهم فيقول:

قولوا لعبّود علّ القول يشفيني إنّ المرابين إخوان الشياطين

وأنّهم لا أعزّ الله طغمتهم قد أطلعوا  رغم تنديدي بهم ، ديني

فذا يقول: غريمي كيف تمهله ؟ وذاك يصرخ: لم تحبسه مديوني ؟

كأنّما الناس عبدان لدرهمهم وتحت إمرتهم نصّ القوانين !

يا شرّ من منيت هذي البلاد بهم ايذاؤكم فقراء الناس يؤذيني

إنّ الصعاليك مثلي مفلسون وهم لمثل هذا الزمان " الزّفت " خبوني

والأمر لو كان لي لم تفرحوا أبدا من أجلّ دين لكم يوما بمسجون

(فبلطوا البحر ) غيظا من معاملة وبالجحيم ، إن اسطعتم فزجوني

فما أنا راجع عن كيد طغمتكم حفظا لحق ( الطفارى ) والمساكين.

يُحاكم المبدع  على ما كتب وليس على نواياه. فالكلمات تكشف المكنون وتشير تصريحا أو تلميحا إلى مواقف المبدع تجاه المجتمع والسلطة. وفي عصر التخصص الدقيق وسيادة مفاهيم جديدة كحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية لا بد من التطرق إلى جزئيات قد لا يراها البعض بسبب الشهرة أو الانبهار البلاغي. فقد انساق شكسبير خلف النمط الاجتماعي السائد فيما يخص الآخر المختلف حيث أظهر احتقارا للغجر في سياق استخدامه للكلمة في أعماله المسرحية وكذلك نظر لمصر بعيون الرومان وليس بعين المبدع المستقلة. فكانت روما عنوانا للتحضر والتنظيم بينما تمحورت صورة مصر حول الدونية والشهوة والخيانة. وأما العوام فكانوا نموذجا للغوغائية واللامنطق وهذا انحياز صريح للسلطة وموقف طبقي واضح. وكان أبطال مسرحياته إما ملوك وأمراء أو من علية القوم. عند استعراض نصوص عرار نجده ذا نزعة إنسانية منحازة للمساواة والعدالة الاجتماعية. فالنّور لم يكونوا الآخر الذي نقيس به تميز شخصيتنا العرقية، بل كانوا بشرا يستحقون معاملة إنسانية كغيرهم من أفراد المجتمع. وبالنسبة للفقراء والمهمشين فهم الأولى بالرعاية والمساعدة ولم يقف موقف المساند للسلطة أو المتفرج المحايد بل أعلن انحيازه الصريح  لهم كما في الأمثلة التي سقناها من شعره. 

 

 

الهوامش:

1-    مسرحية أنطونيو وكليوباترا، المشهد الافتتاحي.

http://shakespeare.mit.edu/index.html

2-    ترجمة الدكتور لويس عوض، وزارة الثقافة المصرية. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكتاب العربي 1968 . ص 5

3-    Cleopatra a gypsy”: Performing the. Nomadic. Subject in. Shakespeare's. Alexandria, Rome and London. KeirElam.

4-    مسرحية أنطونيو وكليوباترا، الفصل الرابع، المشهد الثاني عشر.

http://shakespeare.mit.edu/index.html

5-    ترجمة الدكتور لويس عوض، وزارة الثقافة المصرية. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكتاب العربي 1968 . الفصل الرابع، المشهد الثاني عشر ص 131، 132.

6-    مقتبسات الشاعر عرار (مصطفى وهبي التل) من موقع

https://www.aldiwan.net/cat-poet-mustafa-altal

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حذلقة الأدوات السياسية

فتح كساب

قمة الحماقة أو التواطؤ وخاصة في العمل العام بمختلف تنويعاته أن تعيد نفس التجربة ألف مرة مستخدما نفس المكونات، ونفس الأدوات، وتحت نفس الظروف أو أسوأمنها متأملًا أن تحصل على نتائج مختلفة.

مناسبة هذه العبارة هي عملية التهوين من قيمة مقاطعة الانتخابات، والدعوة إلى المشاركة تحت حجج واهية مثل الإصلاح من الداخل، أو إيصال صوت المعارضة، أو "الاشتباك السياسي" مع السلطة تحت "قبة البرلمان" أو أو  ......الخ.

تعلمنا تجارب التاريخ السياسي العربي في مرحلة "ما بعد الاستقلال" التي أفرزت أنظمة حكم عائلية (ملكية أو أميرية أو مشيخات) أو جمهورية جاءت بانقلابات عسكرية أن العمل ضمن "المعارضة" أمر عبثي لا طائل منه؛ لأنه ناتج عن مخاض زائف لحمل كاذب؛ فما قامت به تلك الأنظمة من تشويه للحياة السياسية والثقافية والقضاء على أساليب الإنتاج التقليدية وتلك التي كانت في حالة من التطور التدريجي واستتباع المواطن وإدخاله منظومة الريع السياسي، قادت إلى حالة من التشويه جعلت من العسير على المتابع إطلاق مسمى دولة على تلك الكيانات الجغرافية، وأخرجت قاطني تلك الجغرافيا من مصطلح "مواطن"، وحولته إلى أشياء كثيرة ليس منها "المُواطَنة".فقد أصبح البشر في هذه الكيانات رعايا أو أرقام أو كائنات ناخبة أو أبناء لطوائف وعشائر تعيش في حيز جغرافي واحد لا يجمعهم شيء ويفرقهم كل شيء.

وعودة إلى "المعارضة" التي نشأت في ظل أنظمة ما بعد الاستقلال، نلاحظ أنها أصبحت جزءا من حالة التردي والعبء الثقيل على كاهل الناس؛ فقد رضيت بالفتات وما دون ذلك لتحافظ على بقائها ولو شكلا دون مضمون. وتحولت الأحزاب والتجمعات السياسية الأخرى تحت مختلف اليافطات إلى عشائر يديرها شخص واحد ذو قدرات خرافية خارقة وعابرة للزمان والمكان لا تتوافر لغيره إلا بعد موته، وأصبح بالتالي نسخة مطابقة للحاكم الذي يدعي معارضته. كما قامت تلك المعارضات بدور المهدئات لكبح كل تطور شعبي أو نخبوي - إن وجد - يسعى إلى إحداث تغيير حقيقي إيجابي في مجتمعاتها تحت ذرائع مثل خطورة المرحلة، وعدم مناسبة الوقت لذلك، وعدم جاهزية الجماهير أو المواجهة مع العدو والتي لم تحصل يوما ولن تحصل ما لم يحدث تغير جوهري.

وأسوق مثالا واضحا نراه بشكل مستمر ويشمل هذا المثال جميع تنويعات "المعارضة" بغض النظر عن الإيديولوجيات التي يتغطون بها؛ تقوم الأنظمة العربية جميعها بتقديم هامش صغير ليكون ملعبا لتلعب فيه المعارضات، وبالمنطق البسيط أقول: بما أن ذلك الملعب هو هبة من السلطة فإن اللعب فيه سيكون بقوانين السلطة ذاتها التي منحت، وستكون النتيجة كارثة بكل المقاييس لأن لعبك في ملعب مجهول وبقوانين لم تشارك في صياغتها ستكون عملية دوران في حلقة مفرغة، ولن تنتج شيئا سوى تعزيز سلطة من أعطاك ذلك الهامش. وبالإضافة إلى ما تقدم، تقوم السلطات باستخدام الأفراد والجماعات التي تتنافس على الفتات كلٌّ وقت حاجته؛  فمثلا نلاحظ أنه عندما تكون هناك حاجة إلى من يسمون "اليساريين واللبراليين" تقوم تلك السلطات بفتح وسائل إعلامها المختلفة لهم؛ فيملئون الدنيا ضجيجا "بمدنية الدولة" وسعي الأنظمة للإصلاح والدخول إلى عالم الحداثة ووضع "المصلحة الوطنية" أولوية كبرى. لكن المعيق لكل ذلك هو البنية الاجتماعية المتخلفة والهياكل السياسية الدينية الظلامية، وعدم فهم الناس لعقل "الدولة" الفذ السابق لعقلية الناس الساذجة والقاصرة، ويتم شجب العقليات الدينية التي تعيش في العصور الوسطى والعقليات العشائرية الرجعية وسوء فهم الناس وعجزهم عن فهم وتطبيق الرؤى الرشيدة للسلطة القائمة وأنها تحمل أعباء تاريخية وسياسية تنوء بحملها سلسة جبال الهملايا.

وإذا استجد ما يُلجئ السلطات القائمة إلى القوى الاجتماعية والدينية؛ تقوم تلك السلطات بإلقاء "اليساريين واللبراليين" في السلّة، وتسحب منها "القوى الاجتماعية والدينية" وتمنحها نفس المنابر الإعلامية لتقوم بلعن العلمانيين واللبراليين واليساريين الكفرة الساعين إلى تدمير القيم الاجتماعية الفريدة والدينية المنزلة من عند الله، ويصبح هدفها الأسمى هو حماية هذا المجتمع "المسكين الغافل" عما يُخطط له من تلك القوى الشيطانية المتربصة به. وهكذا دواليك.

كما اعتادت السلطات العربية على توظيف تلك المعارضات معا عندما تكون شديدة التأزم. والقاسم المشترك بين جميع تلك الأنظمة المأزومة هو اللجوء إلى إجراء انتخابات من أجل التخفيف من الأزمة أو التخلص منها. في هذه الحالة بالذات تُخرج كل تلك القوى على اختلاف ضجيجها من السلّة وتُلقيها في وجه الناس للترويج "للعرس الديمقراطي"، وتبدأ تلك الأدوات الصوتية بالترويج وسوق المبررات لضرورة المشاركة، وأنه من العبث اللجوء إلى المقاطعة، وأن المشاركة انعكاس "لوطنية وغيرة" الناخبين على وطنهم وقيمهم الاجتماعية "الأصيلة"، ودفاع عن "دينهم ومقدساتهم" أمام المتربصين بالوطن وصموده أمام أعدائه في الداخل والخارج. ويبدأ خطابهم بالتماهي مع خطاب السلطة ويختلط الحابل بالنابل. وهم بهذا الرقص على طبل السلطة يقودون الناس إلى اليأس والتشتيت ويضعون مجتمعاتهم أمام خيارات صعبة قد لا تُحمد عقباها.

أعتقد أنه قد حان الوقت ليقوم الناس بنفض غبار تلك الأدوات عن أنفسهم والبحث عن أطر أكثر شبها والتصاقا بهم وفهما لهم ولمعاناتهم؛  لأن الجميع بدءًا بالإسلاميين ومرورا بالقوميين واليساريين واللبراليين،وانتهاء "بالوسطيين أو الوطنيين" أصبحوا عبئا لا لزوم له ولا يمثلون إلا ذواتهم المتحجرة ومصالحهم الضيقة وتضعهم في خانة العجز عن الفعل أو رد الفعل.

4/9/2020