فرانسيس
فوكوياما ، مجلة نشانل إنترست، صيف 1989
ترجمة: فتح
عبدالفتاح كساب
عند التدقيق في مجريات الأحداث على مدى العقد الماضي
أو نحو ذلك، فإنه من الصعب تجنب الشعور بأن شيئا أساسيا جدا حدث في تاريخ العالم. فقد
شهد العام الماضي طوفانا من المقالات المحتفية بانتهاء الحرب الباردة، وحقيقة أن
"السلام" سيسود العديد من مناطق العالم. تفتقر معظم هذه التحليلات إلى
أي إطار مفاهيمي أكبر للتمييز بين ما هو هام وما هو مشروط
أو عرضي في تاريخ العالم، وهي سطحية في تنبؤاتها. فلو تمت الاطاحة بالسيد
غورباتشوف من الكرملين أو أن آية الله جديد افتتح الألفية من عاصمة شرق أوسطية بائسة،
فإن نفس هؤلاء المُعَلِقين سيتبارون للإعلان عن عودة حقبة جديدة من الصراع.
وحتى الآن، لدى
كل هؤلاء الناس شعور مُبهَم بأن هناك عملية أكبر تجري، وهي العملية التي تعطي
التماسك والنظام لعناوين الصحف اليومية. شهد القرن العشرين انحدار العالم المتقدم إلى
نوبة العنف الإيديولوجي، تنافست الليبرالية أولا مع بقايا الحكم المطلق، ثم
البلشفية والفاشية، وأخيرا الماركسية المُحدَثة التي كادت أن تؤدي إلى نهاية
العالم الحتمية في حرب نووية. لكن يبدو أن القرن الذي بدأ كامل الثقة بالنفس للانتصار
النهائي للديمقراطية الليبرالية الغربية سيعود إلى إغلاق الدائرة حيث بدأت: لا إلى
"نهاية الأيديولوجيا" أو التقارب بين الرأسمالية والاشتراكية، كما تم توقعه في وقت سابق ، ولكن لتحقيق فوز
صريح لليبرالية الاقتصادية والسياسية.
إن انتصار
الغرب، الفكرة الغربية، واضح للجميع في الاستنفاذ الكلي للبدائل المنهجية القابلة
للاستمرار لليبرالية الغربية. في العقد الماضي، كانت هناك تغييرات واضحة في المناخ
الفكري لاثنتين من أكبر الدول الشيوعية في العالم، وبدايات لحركات إصلاح كبيرة في
كل منهما. لكن هذه الظاهرة تتجاوز السياسات العليا ويمكن ملاحظتها أيضا في انتشار
الثقافة الاستهلاكية الغربية في سياقات متنوعة مثل الأسواق الزراعية وانتشارأجهزة
التلفاز الملون في كل أنحاء الصين، والمطاعم ومحلات الملابس التعاونية التي افتُتحت في العام الماضي في موسكو، وموسيقى
بيتهوفن التي تم ضخها في المتاجر اليابانية، والاستمتاع بموسيقى الروك في براغ ورانغون
وطهران على حد سواء.
ما قد نشهده،
ليس نهاية الحرب الباردة فحسب، أو اجتياز فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكن
نهاية لتاريخ: أي نقطة نهاية للتطور
الأيديولوجي للبشرية وتعميم كوني للديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل
النهائي للحكومة الإنسانية. لا يعني هذا أنه لن يكون هناك أحداث تملأ صفحات مُلخصات
مجلة الشؤون الخارجية (فورين أفيرز) السنوية للعلاقات الدولية، لأن انتصار
الليبرالية حَدَثَ في المقام الأول في عالم الأفكار أو الوعي، وهوغير مكتمل حتى
الآن في العالم الواقعي أو المادي. ولكن هناك أسباب قوية تدعو إلى الاعتقاد بأن هذا
النموذج هو الذي سيحكم العالم المادي على المدى الطويل. لفهم ذلك، يجب أن ندرس
أولا بعض القضايا النظرية حول طبيعة التغير التاريخي.
مفهوم نهاية
التاريخ ليس بدعة جديدة. كان أشهر المروجين له كارل ماركس، الذي اعتقد أن اتجاه
التطور التاريخي كان أمرا ذا مغزى يحدده التفاعل المتبادل بين القوى المادية، وسينتهي
فقط مع تحقيق اليوتوبيا الشيوعية التي من شأنها أن تحل كل التناقضات السابقة في
نهاية المطاف. لكن مفهوم التاريخ باعتباره عملية جدلية لها بداية ووسط ونهاية، أخذه
ماركس من سلفه الألماني العظيم جورج فيلهلم فريدريش هيغل.
للأفضل أو الأسوأ
، أصبح الكثير من تاريخانية هيغل جزءا من حزمتنا الفكرية المعاصرة. فكرة أن البشرية
تقدمت عبر سلسلة من المراحل البدائية للوعي في طريقها للحاضر، وأن هذه المراحل جاءت
استجابة لأشكال ملموسة من التنظيم الاجتماعي، مثل القَبَلية وامتلاك الرقيق والثيوقراطية
(الحكومة الدينية) و أخيرا المجتمعات الديمقراطية القائمة على المساواة، أصبح كل
ذلك غير قابل للفصل عن الفهم الحديث للإنسان. كان هيغل الفيلسوف الأول الذي تحدث بلغة
العلوم الاجتماعية الحديثة، حيث كان الإنسان بالنسبة له نتاج البيئة التاريخية
والاجتماعية المادية، وليس كما اعتقد منظرو الحق الطبيعي السابقون أنه نتاج مجموعة
من السمات الطبيعية الأكثر أو الأقل ثباتا. لم تكن عملية سيطرة الإنسان على بيئته
الطبيعية وتغييرها عبر تطبيقات العلم والتكنولوجيا ذات أصل مفهومي ماركسي، ولكنها
هيغلية.على عكس المؤرخين اللاحقين الذي تحولوا الى النسبية، اعتقد هيغل أن التاريخ
بلغ أوجه في لحظة مطلقة - لحظة انتصر فيها الشكل العقلاني النهائي للمجتمع والدولة.
من سوء حظ
هيغل أنه نُظِر إليه الآن على أنه سلف ماركس أساسا، ومن سوء حظنا أن عددا قليلا
منا عرف هيغل من الدراسة المباشرة، وليس كما عُرِض لنا من المنظور الماركسي المشوه.
إلا أنه كانت هناك محاولة في فرنسا لانقاذ هيغل من المفسرين الماركسيين وبعثه
باعتباره الفيلسوف الأصح الناطق لعصرنا. ومن بين هؤلاء المترجمين الفرنسيين الحداثيين
لهيغل، كان - الأعظم بالتأكيد- الكسندر كوجييف، وهو مهاجر روسي لامع قدَّم سلسلة
مؤثرة للغاية من الندوات الرائعة في مدرسة التدريب العليا في باريس في ثلاثينيات
القرن العشرين. وفي حين كان مجهولا إلى حد كبير في الولايات المتحدة، كان لكوجييف
تأثير كبير على الحياة الفكرية في القارة الأوروبية. تراوح طلابه "النجوم"
المستقبليون ما بين جان بول سارتر اليساري وريمون آرون اليميني؛ استقت وجودية ما
بعد الحرب الكثير من مقولاتها الأساسية من هيغل عبر كوجييف.
سعى كوجييف لإحياء هيغل صاحب "دراسة
ظواهر العقل"، هيغل الذي أعلن نهاية التاريخ في عام 1806. لأن هيغل هذا رأى
في هزيمة نابليون للملكية البروسية في معركة جينا(Jena ) انتصارا للمثل العليا للثورة الفرنسية، والتعميم الوشيك للدولة التي
تجسد مبادئ الحرية والمساواة. أصر كوجييف، بعيدا عن رفض هيغل في ضوء الأحداث
المضطربة في القرن ونصف التي تلت، على أن هيغل كان محقا في الأساس. أشَّرت معركة جينا
على نهاية التاريخ لأنها كانت في تلك المرحلة الطليعة الإنسانية (مصطلح متداول عند
الماركسيين) التي حققت مبادئ الثورة الفرنسية. في حين كان هناك قدر كبير من العمل
الذي يتعين القيام به بعد 1806 – مثل إلغاء الرق وتجارة الرقيق، وتوسيع امتيازات العمال
والنساء والسود والأقليات العرقية الأخرى، وما إلى ذلك – لم يتم إضافة أي تحسينات
للمبادئ الأساسية للدولة الديمقراطية الليبرالية. كان للحربين العالميتين في هذا
القرن والثورات والاضطرابات المصاحبة لهما تأثير امتداد تلك المبادئ مكانيا، بحيث
ترقَّت مناطق مختلفة من الحضارة الإنسانية إلى مستوى متقدم للغاية، وإجبار
المجتمعات في أوروبا وأمريكا الشمالية التي في طليعة الحضارة لتطبيق الليبرالية
بشكل أكبر.
الدولة التي
تظهر في نهاية التاريخ هي الليبرالية، طالما تُقر وتحمي من خلال النظام القانوني
حق الإنسان العالمي في الحرية والديمقراطية ، طالما هي موجودة برضا المحكومين. بالنسبة
لكوجييف، هذا ما يُسمَّى "بالدولة العالمية المتجانسة " والتي وجدت
تجسيدا واقعيا في بلدان أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية - على وجه
التحديد تلك الرخوة والمزدهرة، المنكفئة إلى الداخل الراضية عن ذاتها وضعيفة
الإرادة التي لم يكن مشروعها الأكثر بطولية سوى إنشاء السوق المشتركة. ولكن هذا فقط
ما كان يمكن توقعه. لأن التاريخ البشري والصراع الذي ميَّزه استند إلى وجود
"تناقضات": سعي الإنسان البدائي للاعتراف المتبادل وجدلية السيد والعبد وتغيير
الطبيعة والسيطرة عليها، والنضال من أجل اعتراف عالمي بالحقوق، والانقسام بين
البروليتاريا والرأسماليين. لكن في وجود دولة عالمية متجانسة، سيتم حل كل
التناقضات السابقة وتلبية جميع الاحتياجات البشرية. لن يكون هناك صراع أو نزاع حول
قضايا "كبيرة"، وبالتالي لا حاجة لجنرالات أو رجال دولة. ما يتبقى في
المقام الأول هو النشاط الاقتصادي. وبالفعل، كانت حياة كوجييف متسقة مع تعاليمه. باعتقاده
أنه لا يوجد مزيد من العمل للفلاسفة أيضا منذ هيغل (بعد فهمه بطريقة صحيحة) الذي
حقق بالفعل المعرفة المطلقة، ترك كوجييف التدريس بعد الحرب، وقضى ما تبقى من حياته
يعمل موظفا في المجموعة الاقتصادية الأوروبية، حتى وفاته في عام 1968.
بالنسبة لمعاصريه
في منتصف القرن، بدا إعلان كوجييف لنهاية التاريخ مثل إيمانٍ بالذات غريب الأطوار
لمفكر فرنسي نموذجي، لظهوره في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي أوج الحرب
الباردة. لفهم جرأة كوجييف في تأكيده أن
التاريخ قد انتهى، يجب علينا أولا وقبل كل شيئ فهم معنى المثالية الهيغلية.
II
حسب هيغل، توجد
التناقضات التي تدفع التاريخ أساسا في مجال الوعي البشري، أي على مستوى الأفكار – ليس
في المقترحات التافهة المقدمة من السياسيين الأميركيين في عام الانتخابات، ولكن في
الأفكار ووجهات النظر الكبيرة المُوحِّدة للعالم التي يمكن فهمها بشكل أفضل تحت عنوان
الأيديولوجيا. لا تقتصر الأيديولوجيا ضمن هذا المعنى على المذاهب السياسية
العلمانية والصريحة التي نقرنها عادة بالمصطلح، ولكن يمكن أن تشمل الدين والثقافة
ومجموعة القيم الأخلاقية الكامنة وراء أي مجتمع أيضا.
كانت رؤية
هيغل للعلاقة بين العالمين المثالي والواقعي أو المادي معقدة للغاية، بدءا من
حقيقة أنه بالنسبة له كان الفرق بين الاثنين ظاهريا. ولم يؤمن بأن العالم الحقيقي مطابق
أو يمكن جعله مطابقا للمفاهيم الأيديولوجية المسبقة لأساتذة الفلسفة بأي طريقة
مبسطة، أو أن العالم "المادي" لا يمكن أن يتصادم مع عالم المثال. في
الواقع، طُرِد هيغل الأستاذ مؤقتا من العمل نتيجة لحدث جوهري، وهو معركة جينا. لكن
في حين كان يمكن أن توقف رصاصة من العالم المادي كتابة وفكر هيغل، تم حفز اليد
التي على زناد البندقية في المقابل من أفكار الحرية والمساواة التي كانت تقود
الثورة الفرنسية.
بالنسبة لهيغل،
كل السلوك البشري في العالم المادي، وبالتالي كل التاريخ البشري، متأصل في حالة سابقة
من الوعي - فكرة مماثلة لتلك التي عبَّرعنها جون ماينارد كينز عندما قال أن وجهات
نظر الرجال ذوي الشأن كانت مستمدة عادة من الاقتصاديين البائدين والمخربشين الأكاديميين
من الأجيال السابقة. قد لا يكون هذا الوعي واضحا وواعيا لذاته مثل المذاهب
السياسية الحديثة، بدلا من ذلك يتخذ شكلا دينيا أو ثقافيا أوعادات أخلاقية بسيطة.
وحتى الآن يصبح هذا المجال من الوعي على المدى الطويل واضحا بالضرورة في العالم
المادي، مُشكِلا العالم المادي في صورته الخاصة. الوعي سبب وليس نتيجة، ويمكن أن يتطور
بشكل مستقل عن العالم المادي، وبالتالي فالنص الخفي الكامن وراء هذه الفوضى من
الأحداث الجارية الظاهرة هو تاريخ الأيديولوجيا.
أصابت مثالية
هيغل نجاحا طفيفا على أيدي المفكرين اللاحقين. عَكَسَ ماركس أولوية الواقعية والمثالية
تماما، مُحيلا عالم الوعي بأكمله - الدين والفن والثقافة والفلسفة نفسها - إلى
"البنية الفوقية" المُحَدَدَة بشكل كامل عن طريق سيادة نمط الإنتاج المادي. وهناك
إرث مؤسف آخر من الماركسية هو ميلنا إلى العودة إلى الماديين أو التفسيرات النفعية
للظواهر السياسية أو التاريخية، وانحرافنا للإيمان بقوة الأفكار. ومن الأمثلة
الحديثة على ذلك هو كتاب بول كينيدي الناجح بشكل كبير "صعود وسقوط القوى
العظمى"، الذي يعزو تراجع القوى العظمى ببساطة إلى التوسع الاقتصادي المُفرط.
من الواضح أن هذا صحيح إلى حد ما: الامبراطورية ذات اقتصاد بالكاد فوق مستوى
الكفاف لا يمكنها إفلاس خزينتها إلى أجل غير مسمى. ولكن إذا اختار مجتمع صناعي حديث
عالي الإنتاجية إنفاق 3 أو 7 في المائة من ناتجه القومي الإجمالي على الدفاع بدلا
من الاستهلاك فهذه مسألة أولويات سياسية للمجتمع، والتي تُحَدد بدورها في عالم
الوعي.
التحيز
المادي للفكر الحديث ليست ميزة لليساريين فحسب الذين قد يتعاطفون مع الماركسية، بل
للعديد من المناوئين للماركسية كذلك. في الواقع، هناك على اليمين ما يمكن للمرء أن
يسمية مدرسة وول ستريت جورنال ذات المادية القطعية التي تُسقِط أهمية الأيديولوجيا
والثقافة، وترى الإنسان أساسأ على أنه فرد عقلاني مُعظِّم للربحية. إنه بالضبط هذا النوع من الأفراد وسعيه للحوافز المادية هو المُفترض
كأساس للحياة الاقتصادية في مثل هذه الكتب الإقتصادية المُقررة. سيوضح مثال واحد
صغير الطابع الإشكالي لمثل هذه الآراء المادية.
يفتتح ماكس
فيبر كتابه الشهير، "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، بالإشارة
إلى الأداء الاقتصادي المختلف للمجتمعات البروتستانتية والكاثوليكية في جميع أنحاء
أوروبا وأمريكا، والمُلخَّص في المثل الذي يقول " يأكل البروتستانت جيدا
بينما ينام الكاثوليك جيدا". وتَنبه فيبر أنه وفقا لأي نظرية اقتصادية افترضت
أن الأنسان عقلاني معظِّم للربح، ينبغي عند زيادة العمل بالقطعة أن تزيد الإنتاجية.
ولكن في الواقع، في كثير من المجتمعات الزراعية التقليدية، كان لزيادة معدل العمل
بالقطعة تأثير معاكس بخفض إنتاجية العمل: بزيادة المعدل، اكتشف الفلاح الذي اعتاد
على كسب نقطتين ونصف يوميا أنه سيكسب نفس المبلغ إذا عمل أقل، وفَعَل ذلك لانه يفضل
وقت الفراغ على الدخل. خيارات تفضيل أوقات الفراغ على الدخل، أو الحياة العسكرية للجندي
الإسبارطي على ثروة التاجر الأثيني، أو حتى حياة التقشف للمقاول الرأسمالي على
حياة الأرستقراطي التقليدي المرفهة، ربما لا يمكن تفسيرها من خلال تفاعلات قوى العمل
المادية المحايدة لكنها تأتي من دائرة
الوعي - ما وصفناه هنا على نطاق واسع على أنه إيديولوجيا. وبالفعل، كان الموضوع
الرئيسي لعمل فيبر إثبات أنه خلافا لماركس، كان نمط الإنتاج المادي، بعيدا عن كونه
"الأساس"، كان في حد ذاته "بنية فوقية" لها جذور في الدين
والثقافة، ولفهم ظهور الرأسمالية الحديثة ودافع الربح على المرء أن يدرس سابقاتها في عالم الروح.
عند التدقيق
في العالم المعاصر، نجد أن ضعف النظريات المادية للتنمية الاقتصادية واضح للغاية. تشير
مدرسة وول ستريت جورنال المادية القطعية عادة إلى النجاح الاقتصادي المذهل لآسيا
في العقود القليلة الماضية كدليل على جدوى اقتصاديات السوق الحر، مع الإيحاء بأن
جميع المجتمعات ستشهد تطورا مماثلا إذا سمحت لسكانها ببساطة بالسعي نحو مصلحتهم
المادية الذاتية بِحُرِّية. بالتأكيد إن الأسواق الحرة والنظم السياسية المستقرة
هي شرط مسبق ضروري للنمو الاقتصادي الرأسمالي. ولكن هناك بالمثل التراث الثقافي
لمجتمعات الشرق الأقصى تلك، أخلاقيات العمل والادخار والأسرة، والتراث الديني الذي
لا يضع قيودا على بعض أشكال السلوك الاقتصادي، مثل الإسلام، وغيرها من الصفات
الأخلاقية المتأصلة بعمق، هي على قدم المساواة مهمة في شرح أدائها الاقتصادي. وحتى
الآن فإن الوزن الفكري للمادية كبير لدرجة أنه لا توجد نظرية معاصرة محترمة واحدة في
التنمية الاقتصادية تأخذ الوعي والثقافة على محمل الجد مثل المصفوفة التي يتم عن طريقها
تشكيل السلوك الاقتصادي.
يؤدي الفشل
في فهم أن جذور السلوك الاقتصادي تقع في مجال الوعي والثقافة إلى خطأ شائع بعزو الأسباب
المادية إلى الظواهر المثالية في جوهرها. على سبيل المثال، يشيع في الغرب عند
تفسير حركات الإصلاح في الصين أولا والأحدث في الاتحاد السوفييتي باعتباره انتصارا
للمادي على المثالي - أي، إدراك أن الحوافز الإيديولوجية لا يمكن أن تحل محل تلك المادية
في تحفيز اقتصاد حديث مُنتِج للغاية، وأنه إذا أراد جانب أن يزدهر فعليه العودة
إلى الشكل الأساس للأنانية الذاتية. لكن عيوب الاقتصادات الاشتراكية العميقة كانت
واضحة منذ ثلاثين أو أربعين عاما لمن اختار البحث. لماذا تحولت هذه البلدان بعيدا
عن التخطيط المركزي في عام 1980؟ يكمن الجواب في وعي النخب والقيادات الحاكمة ،
الذين فضلوا خيار الحياة "البروتستانتية" الثروة والخطر على مسار
"الكاثوليكية" الفقر والأمن. لم يكن هذا التغيير أمرا لا مفر منه بفعل
الظروف المادية التي وجد فيها البلدين نفسيهما على عتبة الاصلاح، ولكن بدلا من ذلك
جاء نتيجة لانتصار فكرة على أخرى.
بالنسبة لكوجييف،
مثل جميع الهيغليين المُخْلصين، فإن فهم العمليات الكامنة وراء التاريخ يتطلب فهما
للتطورات في مجال الوعي أو الأفكار، لأن الوعي في نهاية المطاف سيعيد انتاج العالم
المادي في صورته الخاصة. القول بنهاية التاريخ في عام 1806 يعني أن التطور
الأيديولوجي أنتهى بمجيء المثل العليا للثورات الفرنسية أو الأمريكية: وفي حين أن نُظما
معينة في العالم الفعلي قد لا تنفذ هذه المُثل تماما، فلأن حقيقتهم النظرية مطلقة
ولا يمكن تحسينها. لذلك لم يكترث كوجييف لمسألة أن وعي جيل الأوروبيين ما بعد
الحرب لم ينتشرفي جميع أنحاء العالم؛ إذا انتهى التطور الإيديولوجي في الواقع ،
فإن الدولة المتجانسة ستنتصر في نهاية المطاف في جميع أنحاء العالم المادي.
ليس لدي لا المتسع
ولا القدرة ، صراحة، للدفاع عن منظور هيغل المثالي الجذري ( الراديكالي). المسألة
ليست ما إذا كان نظام هيجل صحيحا، ولكن ما إذا كان منظوره سيكشف الطبيعة الإشكالية
للعديد من التفسيرات المادية التي نأخذها في كثير من الأحيان كمسلمات. ولا يعني
إنكار هذا دور العوامل المادية على هذا النحو. بالنسبة للمثالي الحَرْفيّ التفكير،
يمكن بناء مجتمع بشري استنادا إلى أي مجموعة اعتباطية من المبادئ بغض النظرعن علاقتها
بالعالم المادي. في واقع الأمر أثبت البشر قدرتهم على تحمل المشاق والمصاعب المادية
الأكثر قسوة باسم الأفكار الموجودة في عالم الروح وحده، سواء كان ذلك مستندا على
قدسية الأبقار أو جوهر الثالوث المقدس.
ولكن في حين
يتشكل فهم الإنسان للعالم المادي عن طريق وعيه التاريخي له ، يمكن للعالم المادي بالمقابل
أن يؤثر في حالة معينة من الوعي. تعزز،
على وجه الخصوص، الوفرة المذهلة للاقتصادات الليبرالية المتقدمة والثقافة
الاستهلاكية المتنوعة اللامحدودة وتحافظ على الليبرالية في المجال السياسي. أريد
أن أتجنب الحتمية المادية التي تقول أن الاقتصاد الليبرالي يؤدي حتما إلى السياسة الليبرالية، لأنني أعتقد أن كلا
من الاقتصاد والسياسة تفترض مسبقا قيام حالة سابقة مستقلة من الوعي تجعل ذلك ممكنا. إلا أن
حالة الوعي التي تسمح بنمو الليبرالية تنحو لتحقيق الاستقرار في الاتجاه الذي
يتوقعه المرء في نهاية التاريخ إذا ما تم
التعهد به عن طريق الوفرة لاقتصاد السوق الحرة الحديثة. يمكننا أن نلخص مضمون
الدولة العالمية المتجانسة بالديمقراطية الليبرالية في المجال السياسي المرتبطة بسهولة
بأجهزة فيديو واستريو في المجالات الاقتصادية.
III
هل وصلنا
فعلا إلى نهاية التاريخ؟ وبعبارة أخرى، هل هناك أي "تناقضات" جوهرية في
حياة الإنسان لا يمكن حلها في سياق الليبرالية الحديثة، والتي يمكن حلها عن طريق
بنية سياسية اقتصادية بديلة؟ إذا قبلنا الافتراضات المثالية المبينة أعلاه، يجب
علينا أن نبحث عن إجابة لهذا السؤال في مجال الأيديولوجيا والوعي. مهمتنا ليست بالإجابة
الشاملة على التحديات التي تواجه الليبرالية التي يروج لها كل مُدّع معتوه في جميع
أنحاء العالم، ولكن فقط تلك التي تتجسد في القوى والحركات الاجتماعية والسياسية
الهامة، والتي هي بالتالي جزء من تاريخ العالم. ولهذا الغرض لن نهتم كثيرأ للأفكار
الغريبة الموجودة عند الناس في ألبانيا أو بوركينا فاسو، لاننا مهتمون في ما يمكن
إلى حد ما تسميته بالتراث الإيديولوجي المشترك للبشرية.
كان هناك
تحديان رئيسيان لليبرالية في القرن الماضي هما الفاشية والشيوعية. رأت الأولى أن الضعف
السياسي والمادية والانحلال، وتفكك مجتمع الغرب تناقضات أساسية في المجتمعات
الليبرالية والتي لا يمكن حلها إلا من خلال دولة قوية أعادت تشكيل "شعب"
جديد على أساس القومية المحضة. تم تدمير الفاشية كأيديولوجية حية في الحرب
العالمية الثانية. وكانت هذه هزيمة، بطبيعة الحال، على الصعيد المادي، ولكنها وصلت
إلى هزيمة الفكرة أيضا. ما دمر الفاشية كفكرة لم يكن النفور الأخلاقي العالمي منها،
لأن الكثير من الناس كانوا على استعداد لتأييد الفكرة طالما أنها تبدو موجة
المستقبل، ولكن افتقارها للنجاح. بعد الحرب، بدا لمعظم الناس أن الفاشية الألمانية
وكذلك مشتقاتها الأوروبية والآسيوية الأخرى آيلة للتدمير الذاتي. لم يكن هناك سبب واضح
لعدم ظهور الحركات الفاشية الجديدة مرة أخرى بعد الحرب في مناطق أخرى، ولكن لأن
التعصب القومي التوسعي، المترافق مع الوعود بنزاع لا ينتهي أدى إلى هزيمة عسكرية
كارثية، أفقدها جاذبيتها. تهاوي أنقاض مستشارية الرايخ وكذلك سقوط القنابل الذرية
على هيروشيما وناغازاكي قتلت هذه الإيديولوجيا على مستوى الوعي وكذلك ماديا، وذوت جميع
الحركات التي ولدت من الأمثلة الفاشية الألمانية واليابانية مثل الحركة البيرونية
في الأرجنتين أو جيش سوبهاس تشاندرا بوس الوطني الهندي بعد الحرب.
كان التحدي الأيديولوجي الذي تعاظم
بفعل البديل الكبير الآخر لليبرالية ،الشيوعية، أكثر خطورة بكثير. أكد ماركس الذي استخدم
لغة هيجل، أن المجتمع الليبرالي احتوى تناقضا جوهريا لا يمكن حله ضمن السياق نفسه،
بين رأس المال والعمال، و شكل هذا التناقض الاتهام الرئيس لليبرالية منذ ذلك
الحين. لكن بالتأكيد، تم بالفعل حل المشكلة الطبقية بنجاح في الغرب. وكما لاحظ
كوجييف (من بين آخرين) تمثل المساواة الأمريكية الحديثة إنجازا أساسيا للمجتمع اللا
طبقي الذي تصوره ماركس. هذا لا يعني أنه لا يوجد أغنياء وفقراء في الولايات
المتحدة، أو أن الفجوة بينهما لم تتسع في السنوات الأخيرة. لكن الأسباب الجذرية
لعدم المساواة الاقتصادية لا تتعلق بالهيكل القانوني والاجتماعي السائد في
مجتمعنا، الذي لا يزال مساواتيا في جوهره ويعيد التوزيع بشكل معتدل، بل بالخصائص
الثقافية والاجتماعية للجماعات التي تُكَونه، والتي هي بدورها الإرث التاريخي لحالة
ما قبل الحداثة. فقر السود في الولايات المتحدة ليس نتاجا أصيلا لليبرالية، ولكنه
"إرث الرق والعنصرية" الذي استمر لفترة طويلة بعد إلغاء العبودية رسميا.
نتيجة
لانحسار القضية الطبقية، لا خوف من القول، إن جاذبية الشيوعية في العالم الغربي
المتقدم أقل اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. ويمكن
قياس هذا بعدة طرق: في تناقص عضوية وتراجع التصويت للأحزاب الشيوعية الأوروبية
الكبرى، وبرامج مراجعاتها العلنية؛ في النجاح الانتخابي المقابل للأحزاب المحافظة من
بريطانيا وألمانيا إلى الولايات المتحدة واليابان المؤيدة علنا لاقتصاديات السوق
الحرة بعيدا عن سيطرة الدولة؛ وفي المناخ الفكري الذي لم يعد معظم أعضاءه "التقدميين"
يعتقدون أنه يجب في نهاية المطاف التغلب على المجتمع البرجوازي. وهذا لا يعني أن
آراء المثقفين التقدميين في الدول الغربية ليست مَرَضية للغاية في عدد من الأوجه. لكن
أولئك الذين يعتقدون أن المستقبل يجب أن يكون حتما للاشتراكية يتجهون إلى القِدَم،
أو أنهم هامشيون جدا في الخطاب السياسي الحقيقي لمجتمعاتهم.
يمكن للمرء
أن يجادل بأن البديل الاشتراكي لم يكن أبدا معقولا لعالم شمال الأطلسي، واستدامته للعدة
عقود الماضية يعود في المقام الأول لنجاحه خارج هذه المنطقة. لكن ما يصعق المرء هو
حدوث التحولات الأيديولوجية الكبرى في العالم غير الأوروبي خصوصا. بالتأكيد حدثت
أكثر التغيرات اللافتة للنظر في آسيا. نظرا لقوة وقدرة ثقافات الشعوب الأصلية هناك
على التكيف، أصبحت آسيا ساحة حرب لمجموعة متنوعة من الأيديولوجيات الغربية
المستوردة في مطلع هذا القرن. كانت
الليبرالية في آسيا قصبة ضعيفة جدا في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. فمن
السهل اليوم أن ننسى كيف بدا المستقبل السياسي قاتما في آسيا قبل عشر أو خمس عشرة
سنة مضت. ومن السهل أن ننسى كذلك كيف بدت نتائج الصراعات الأيديولوجية الآسيوية
بالغة الأهمية للتنمية السياسية العالمية ككل.
كان أول بديل
آسيوي لليبرالية تمت هزيمته بشكل حاسم هو الفاشي الذي مثلته اليابان الإمبراطورية.
هُزِمت الفاشية اليابانية (مثل الألمانية) بالقوة المسلحة الأمريكية في حرب المحيط
الهادئ، وفُرِضت الديمقراطية الليبرالية في اليابان من قبل الولايات المتحدة المنتصرة.
تم تكييف الرأسمالية الغربية والليبرالية السياسية عند استنباتها في اليابان
وتحويلها من اليابانيين بطريقة بالكاد يمكن التعرف عليها. يعي العديد من
الأميركيين الآن أن المؤسسة الصناعية اليابانية مختلفة تماما عن تلك السائدة في
الولايات المتحدة أو أوروبا، و من المشكوك فيه علاقة المناورة الحزبية التي تجري
مع الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم وما تحمله للديمقراطية. غير أن حقيقة أن
العناصر الأساسية لليبرالية الاقتصادية والسياسية قد تم تطعيمها بنجاح كبير في
التقاليد والمؤسسات اليابانية الفريدة يضمن بقاءها على قيد الحياة على المدى
الطويل. أهم من ذلك مساهمة اليابان التي قدمتها بدورها لتاريخ العالم عند اتباع
خطى الولايات المتحدة لخلق ثقافة استهلاكية عالمية بحق، والتي أصبحت رمزا ودعامة
للدولة العالمية المتجانسة. لاحَظَ في أس نايبول (V.S.Naipaul) بعد فترة وجيزة من السفر في إيران الخميني ثورة علامات تجارية
منتشرة في كل مكان مُعلِنة عن منتجات سوني وهيتاشي وJVC، ذات الجاذبية التي لا تُقاوم تقريبا، مكذبة ادعاءات النظام لبناء
دولة تقوم على سيادة الشريعة. وقد لعبت الرغبة في الوصول إلى ثقافة الاستهلاك،
التي أُنشئت إلى حد كبير على يد اليابانيين، دورا حاسما في تعزيز انتشار
الليبرالية الاقتصادية في جميع أنحاء آسيا، وبالتالي في الترويج لليبرالية
السياسية أيضا.
أصبح النجاح
الاقتصادي للبلدان الأخرى حديثة العهد بالتصنيع في آسيا التي تتبع النموذج الياباني
قصة مألوفة. ما هو مهم من وجهة نظرهيغلية هو أن الليبرالية السياسية تتبع
الليبرالية الاقتصادية، ببطء أكثر مما أمِل الكثيرون لكن بحتمية على ما يبدو. مرة
أخرى هنا نرى انتصارا لفكرة الدولة العالمية المتجانسة. تطورت كوريا الجنوبية لتصبح
مجتمعا حضريا حديثا ذو طبقة وسطى كبيرة و متزايدة ذات تعليم جيد لا يمكنها أن تكون
معزولة عن التوجهات الديمقراطية الأكبر حولها. في ظل هذه الظروف بدا من غير المحتمل
لجزء كبير من السكان أن يُحكم من نظام عسكري في حين أن اليابان، التي سبقتها بعقد
واحد فقط أو نحو ذلك في الناحية الاقتصادية، كان لها مؤسسات برلمانية منذ أكثر من
أربعين عاما. حتى النظام الاشتراكي السابق في بورما، والذي بقي لعقود كثيرة في عزلة
تامة عن الاتجاهات الكبرى التي تسيطرعلى آسيا، قد طالته الضغوط في العام الماضي لتحرير
كل من اقتصاده ونظامه السياسي. يقال إن التعاسة مع القوي ني وين (Ne Win) بدأت عندما ذهب ضابط بورمي كبير إلى سنغافورة لتلقي العلاج الطبي
وانهار بالبكاء عندما رأى مدى تأخُر بورما الاشتراكية عن جيرانها في منظمة الآسيان.
لكن قوة
الفكرة الليبرالية ستبدو أقل إثارة للإعجاب لو لم تُؤثِّر في أكبر وأقدم ثقافة في
آسيا، الصين. خلق الوجود البسيط للصين الشيوعية قطبا بديلا ذو جاذبية أيديولوجية،
و شكَّل على هذا النحو تهديدا لليبرالية. لكن شهدت السنوات الخمس عشرة الماضية
تشويها للمصداقية الكلية تقريبا للماركسية اللينينية كنظام اقتصادي. بدءا من
الدورة الثالثة الشهيرة للجنة المركزية العاشرة في عام 1978، بدأ الحزب الشيوعي
الصيني بإنهاء الملكية الزراعية الجماعية لاكثر
من 800 مليون صيني ما زالوا يعيشون في الريف. تم تقليص دور الدولة في الزراعة إلى جباية
الضرائب، في حين تم زيادة إنتاج السلع الاستهلاكية بشكل حاد من أجل إدخال الفلاحين
في الدولة العالمية المتجانسة، وهو بالتالي حافز للعمل. ضاعف الإصلاح انتاج الحبوب
الصيني في غضون خمس سنوات فقط، وفي السياق خَلَقَ لدنغ شياو بينغ قاعدة سياسية
صلبة مكنته من توسيع الإصلاح إلى أجزاء أخرى من الاقتصاد. لا تبدأ الإحصاءات
الاقتصادية بوصف الحيوية وروح المبادرة والانفتاح الواضح في الصين منذ بدء
الإصلاح.
لا يمكن وصف الصين
الآن أنها في أي حال دولة ديمقراطية ليبرالية. في الوقت الحاضر لم يتم تسويق أكثر
من 20 في المئة من اقتصادها، والأهم من ذلك أنها ما زالت تُحكم من الحزب الشيوعي غير
المُنتخب الذي لم يقدم اي تلميح في الرغبة في نقل السلطة. لم يقطع دينغ وعودا بشأن
دمقرطة النظام السياسي على غرار غورباتشوف وليس هناك مُعادل صيني للغلاسنوست
(برنامج الإصلاح السوفييتي). في الواقع كانت القيادة الصينية أكثر حرصا في عدم
انتقاد ماو والماوية من غورباتشوف فيما يتعلق ببريجنيف وستالين، ويستمر النظام في
نفاقه للماركسية اللينينية على أنها
دعامته الأيديولوجية. لكن المُطَّلع على توجهات وسلوك النخبة التكنوقراطية الجديدة
التي تحكم الصين يعرف أن الماركسية والمبدأ الأيديولوجي أصبحا غير ذي صلة تقريبا بتوجيه
السياسة، وأصبح للاستهلاكية البرجوازية معنى حقيقي في هذا البلد للمرة الاولى منذ
الثورة. ويُنظر إلى المعيقات المختلفة في وتيرة الإصلاح: الحملات ضد "التلوث
الروحي" وحملات القمع ضد المنشقين السياسيين على أنها تكيُّفات تكتيكية تتم
في عملية الإدارة بالغة الصعوبة للتحول السياسي غير العادي. وبتملصه من مسألة الإصلاح السياسي أثناء وضع الاقتصاد على
أسس جديدة، تمكن دنغ من تجنب انهيار السلطة التي صاحبت بيريسترويكا جورباتشوف. إلا
أن إعاقة فكرة الليبرالية لا تزال قوية
جدا مع تحول السلطة الاقتصادية ويصبح الاقتصاد أكثر انفتاحا على العالم الخارجي. هناك
حاليا أكثر من 20000 طالبا صينيا يدرسون في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى،
جميعهم تقريبا من أبناء النخبة الصينية. من الصعب أن نعتقد أنه عندما يعودون إلى
الوطن لإدارة البلاد أنهم سيرضون للصين أن تكون الدولة الوحيدة في آسيا التي لم
تتأثر بتوجه ديمقراطي أكبر. المظاهرات الطلابية التي اندلعت لأول مرة في بكين في
كانون الاول عام 1986، وتكررت في الآونة الأخيرة في ذكرى وفاة هو ياو بانغ ليست
سوى بداية لما سيكون تصاعدا حتميا للضغوط من أجل التغيير في النظام السياسي كذلك.
ما هو مهم
حول الصين من وجهة نظر تاريخ العالم ليست الحالة الراهنة للإصلاح أو حتى آفاقه
المستقبلية. القضية المركزية هي حقيقة أن جمهورية الصين الشعبية لم تعد قادرة أن
تكون بمثابة منارة للقوى غير الليبرالية في جميع أنحاء العالم، سواء كانوا من
المتمردين في غابة آسيوية أو طلابا من الطبقة الوسطى في باريس. وبدلا من أن تكون
الماوية نمط آسيا المستقبلي ، أصبحت مفارقة تاريخية، تأثر البر الرئيسى الصيني في
الحقيقة بشكل حاسم بازدهار ودينامية أبناء عرقهم في الخارج - النصر النهائي المثير
للسخرية لتايوان.
بنفس أهمية هذه
التغيرات في الصين، مع ذلك، التطورات في الاتحاد السوفياتي - "وطن
البروليتاريا العالمية" الأصلي - التي وضعت المسمار الأخير في نعش البديل
الماركسي اللينيني للديمقراطية الليبرالية. يجب أن يكون واضحا أنه من حيث المؤسسات
الرسمية، لم يتغير الكثير في السنوات الأربع منذ مجيء جورباتشوف إلى السلطة: تمثل الأسواق
الحرة والحركة التعاونية جزءا صغيرا من الاقتصاد السوفياتي، الذي لا يزال مركزيا.
لا يزال الحزب الشيوعي مهيمنا على النظام السياسي ، الذي بدأ بإضفاء الطابع
الديمقراطي داخليا وعلى تقاسم السلطة مع المجموعات الأخرى. يواصل النظام تأكيده على
سعيه لتحديث الاشتراكية وأن الماركسية اللينينية لا تزال الأساس الأيديولوجي. وأخيرا،
يواجه غورباتشوف معارضة محافظة قوية محتملة يمكنها إلغاء العديد من التغيرات التي
حدثت حتى الآن. علاوة على ذلك، من الصعب أن نكون شديدي التفاؤل بشأن فرص نجاح
الإصلاحات المقترحة من جورباتشوف في مجال الاقتصاد أو السياسة. ولكن هدفي هنا ليس تحليل
الأحداث على المدى القصير، أو تقديم تنبؤات لأغراض السياسة، ولكن لأطَّلِع على
الاتجاهات الكامنة في مجال الأيديولوجيا والوعي. وفي هذا الصدد، من الواضح أن تحولا
مذهلا قد حدث.
صرح مهاجرون
من الاتحاد السوفيتي أنه لا أحد تقريبا في هذا البلد يؤمن حقا، على الأقل في الجيل
الأخير، بالماركسية اللينينية بعد الآن، وهذا ينطبق بشكل أكبر على النخبة السوفييتية،
التي استمرت في إطلاق الشعارات الماركسية بسخرية محضة. بدا أن فساد وانحطاط الدولة
السوفييتية أواخرعهد بريجنيف ذو أهمية ضئيلة، طالما أن الدولة نفسها رفضت التشكيك
في أي من المبادئ الأساسية للمجتمع السوفييتي؛ كان النظام قادرا على العمل بشكل
كاف ضمن هذا القصور التام ويمكنه حتى استجماع بعض الدينامية (الحيوية) في مجال
السياسة الخارجية والدفاع. كانت الماركسية اللينينية مثل التعويذة السحرية، كانت مع
ذلك عبثية وخالية من المعنى، كانت الأساس المشترك الوحيد الذي يمكن أن تتوافق عليه
النخبة لحكم المجتمع السوفييتي.
ما حدث في
السنوات الأربع منذ وصول جورباتشوف الى السلطة هو هجوم ثوري على المؤسسات والمبادئ
الأساسية الستالينية، والاستعاضة عنها بمبادئ أخرى لا ترقى إلى الليبرالية في حد
ذاتها ولكن خَيطُ ربطِها الوحيد هو الليبرالية. وهذا أكثر وضوحا في المجال
الاقتصادي، حيث أصبح اقتصاديو الإصلاح حول غورباتشوف أكثر راديكالية باطراد في
دعمهم للأسواق الحرة، إلى درجة أن بعضهم مثل نيكولاي شميليف لا يمانع بمقارنتة علنا
مع ميلتون فريدمان. هناك شبه إجماع في المدرسة السائدة حاليا بين الاقتصاديين
السوفييت على أن التخطيط المركزي وسلطة التوزيع هي السبب الجذري لعدم الكفاءة
الاقتصادية، وأن تعافي النظام السوفياتي يتم بالسماح لحرية صناعة القرار
واللامركزية فيما يتعلق بالاستثمار والعمل
والأسعار. بعد سنتين من الارتباك الأيديولوجي، تم أخيرا تحويل هذه المبادئ مع صدور
قوانين جديدة الى سياسة تخص استقلال الشركات والتعاونيات، وأخيرا في عام 1988
ترتيبات عقود الإيجار والزراعة العائلية. هناك، بطبيعة الحال، عدد من العيوب
القاتلة في التنفيذ الحالي للإصلاح، وأبرزها غياب إصلاح جذري للأسعار. لكن لم تعد
المشكلة مفهومية: يبدو أن غورباتشوف ومساعديه يفهمون المنطق الاقتصادي لاقتصاد
السوق بما فيه الكفاية، لكنهم مثل زعماء دولة من دول العالم الثالث التي تواجه
صندوق النقد الدولي، خائفون من العواقب الاجتماعية لإنهاء دعم المستهلك وغيرها من
أشكال الاعتماد على القطاع الحكومي.
في المجال
السياسي، لا ترتقي التغييرات المقترحة على الدستور السوفييتي والنظام القانوني
وقوانين الأحزاب إلى إقامة دولة ليبرالية. تحدَّث غورباتشوف عن الدمقرطة في المقام الأول
في مجال الشؤون الداخلية للحزب، ولم يُظهر نية لإنهاء احتكار الحزب الشيوعي
للسلطة. في الواقع، يسعى الإصلاح السياسي لإضفاء الشرعية وبالتالي تعزيز حكم حزب
الشيوعي. ومع ذلك، تأتي المبادئ العامة التي تقوم عليها العديد من الإصلاحات - أن
يكون "الشعب" مسؤولا حقا عن شؤونه الخاصة، أن تكون الهيئات السياسية
العليا متجاوبة مع الهيئات الدنيا، وليس العكس، يجب أن تسود سيادة القانون على
تصرفات الشرطة التعسفية، والفصل بين السلطات واستقلالية القضاء، وينبغي أن يكون
هناك حماية قانونية لحق التملك، والحاجة إلى ناقشات مفتوحة للقضايا العامة، والحق
في المعارضة ، وتمكين السوفييت ليكونوا المنبر الذي يشارك فيه الشعب السوفياتي كله،
وثقافة سياسية أكثر تسامحا وتعددية – تأتي من مصدر غريب عن التقاليد في اتحاد
الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية الماركسية اللينينية، حتى لو كانت غير واضحة تماما
ومطبقة بصورة سيئة في الممارسة.
تأكيدات
غورباتشوف المتكررة بأنه لا يفعل أكثر من محاولة استعادة المعنى الأصلي للينينية
هي في حد ذاتها نوع من الازدواجية الأورويلية ( نسبة للكاتب جورج أورويل صاحب
رواية مزرعة الحيوان). أصرَّ غورباتشوف وحلفاؤه على الدوام على أن ديمقراطية الحزب
الداخلية كانت على نحو ما جوهر اللينينية، وأن مختلف الممارسات الليبرالية مثل الحوار
المفتوح والانتخاب بالاقتراع السري، وسيادة القانون كانت جميعها جزءا من التراث
اللينيني، أفسده ستالين في وقت لاحق. وفي حين يبدو أي شخص جيدا مقارنة مع ستالين، فإن
رسم خط فاصل بين لينين وخلفائه أمر خاضع للشك. كان جوهر المركزية الديمقراطية بالنسبة
للينين هي المركزية، وليس الديمقراطية؛ أي، الدكتاتورية الجامدة المحددة والمنضبطة
ذات الهرمية المُنظمة لحزب الطليعة الشيوعي، الناطق باسم الشعوب. كل مهاترات لينين
الشرسة ضد كارل كاوتسكي وروزا لوكسمبورغ، ومختلف المنافسين المناشفة والديمقراطيين الاجتماعيين الآخرين، ناهيك
عن احتقاره "للشرعية البورجوازية" والحريات كانت كلها تتمحور حول قناعته
العميقة بأن الثورة لا يمكن أن تنجح عن طريق مؤسسات تُدار ديمقراطيا.
من السهل فهم مزاعم غورباتشوف بسعيه للعودة
إلى نهج لينين الحقيقي: بعد ان أعلن شجبه الكامل للستالينية والبريجينيفية بوصفهما جذر مأزق الاتحاد السوفييتي الحالي،
سيحتاج للعودة إلى نقطة ما في تاريخ الاتحاد السوفياتي لإرساء شرعية حكم الحزب الشيوعي المستمرة
ولكن ينبغي لمتطلبات جورباتشوف التكتيكية ألا تحجب عنا
حقيقة أن مبادئ الدمقرطة واللامركزية التي كان قد أعلنها في كل المجالات
الاقتصادية والسياسية تنقض أكثر المفاهيم أهمية
في كل من الماركسية واللينينية. في الواقع، إذا تم وضع الجزء الأكبر من مقترحات الإصلاح الاقتصادي الحالية حيز
التنفيذ، فمن الصعب معرفة كيف أن الاقتصاد
السوفياتي سيكون أكثر اشتراكية
من تلك الدول الغربية الأخرى ذات القطاع العام
الكبير.
لا يمكن بأي
حال من الأحوال وصف الاتحاد السوفيتي أنه دولة ليبرالية أو ديمقراطية الآن، ولا
أعتقد أنه من المرجح بشكل كبير أن البيريسترويكا ستنجح، لأن هذه اليافطة ستكون عرضة
للمراجعة في أي وقت في المستقبل القريب. لكن ليس من الضروري عند نهاية التاريخ أن تصبح
كل المجتمعات مجتمعات ليبرالية ناجحة، ببساطة لأنهم سيفقدون ذرائعهم الإيديولوجية بتمثيلهم
أشكالا مختلفة وأرقى للمجتمع البشري. أعتقد في هذا الصدد أن شيئا مهما جدا حدث في
الاتحاد السوفياتي في السنوات القليلة الماضية: كانت الانتقادات الموجهة للنظام
السوفياتي التي أعلنها غورباتشوف عميقة جدا ومدمرة وأن الفرصة للعودة إلى الوراء أي
إلى الستالينية أو البريجينيفية بكل بساطة ضئيلة للغاية. سمح غورباتشوف أخيرا للناس
أن يعبِّروا عما فهموه لسنوات عديدة دون الإعلان عنه، وهي أن التعويذة السحرية
للماركسية اللينينية كانت هراء، أن الاشتراكية السوفيتية لم تكن متفوقة على الغرب
بأي شكل من الأشكال بل كانت في الواقع فشلا ذريعا. المعارضة المحافظة في الاتحاد
السوفياتي التي تتكون من العمال البسطاء الخائفين من البطالة والتضخم ومسؤولي
الحزب الخائفين من فقدان وظائفهم وامتيازاتهم، واضحة وقوية بما يكفي للاطاحة بغورباتشوف
في السنوات القليلة المقبلة. لكن ما ترغب المجموعتان به هو المؤسسة والنظام
والسلطة. ولا تُظهر أي التزام عميق للماركسية اللينينية، إلا بقدر ما استثمرته من
حياتها فيها. استعادة السلطة في الاتحاد السوفياتي بعد أعمال جورباتشوف المدمرة، يجب
أن تكون على أساس أيديولوجي جديد وقوي لم يظهر في الأفق بعد.
إذا أقررنا
في الوقت الحالي بأن التحديات الفاشية والشيوعية لليبرالية قد انتهت، هل بقي هناك
أي منافسين أيديولوجيين آخرين؟ أو بعبارة أخرى، هل هناك تناقضات في المجتمع الليبرالي
أكبر من الطبقية عصية على الحل؟ هناك احتمالان يطرحان نفسيهما، الدين والقومية.
لوحظ على
نطاق واسع صعود الأصولية الدينية في السنوات الأخيرة في إطار التقاليد المسيحية واليهودية
والإسلامية. يميل المرء إلى القول إن إحياء الدين بشكل ما شاهدٌ على التعاسة المترافقة
مع المجهول والخواء الروحي للمجتمعات الاستهلاكية الليبرالية. وفي حين أن الفراغ
في صلب الليبرالية هو بكل تأكيد خلل في الأيديولوجيا - هو في الواقع خلل لا يحتاج
المرء فيه منظورا دينيا للاعتراف به - ليس من الواضح على الإطلاق أنه قابل للعلاج
من خلال السياسة. كانت الليبرالية الحديثة نفسها تاريخيا نتيجة لضعف المجتمعات القائمة
على أساس ديني، والتي فشلت في الاتفاق على ماهية الحياة الجيدة، ولم تستطع أن توفر
حتى الحد الأدنى من الشروط المسبقة للسلام والاستقرار. قدَّم الإسلام فقط في
العالم المعاصر دولة دينية كبديل سياسي على حد سواء لليبرالية والشيوعية. لكن ليس
لهذا المُعتَقد جاذبية كبيرة عند غير المسلمين، و من الصعب الاعتقاد أن الحركة ستحوزعلى
أهمية عالمية. أما البواعث الدينية الأخرى الأقل تنظيما فقد أُرضيت بنجاح في نطاق
الحياة الشخصية المسموح بها في المجتمعات الليبرالية.
"التناقض"
الكبير الآخر غير القابل للحل من قبل الليبرالية هو الذي تطرحه القومية وغيرها من
أشكال الوعي العنصري والعرقي. ومن المؤكد أن درجة كبيرة جدا من الصراع منذ معركة جينا
لها جذورها في القومية. ولِدت حربان عالميتان كارثيتان بسبب القومية ذات المظاهر المختلفة
في العالم المتقدم ، وإذا كان قد تم كتم تلك المشاعر إلى حد ما في أوروبا بعد
الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لا تزال قوية للغاية في العالم الثالث. كانت
القومية تهديدا لليبرالية تاريخيا في ألمانيا، وتستمر لتكون كذلك في مناطق معزولة
من أوروبا "ما بعد التاريخ" مثل أيرلندا الشمالية.
لكن ليس من
الواضح أن القومية تمثل تناقضا عنيدا في قلب الليبرالية. في المقام الأول، القومية
ليست ظاهرة واحدة لكنها متعددة، تتراوح بين الحنين الثقافي المعتدل الى المعتقدات
المفصلية ذات الدرجة العالية من التنظيم. يمكن وصف القوميات المنظمة مثل
الاشتراكية القومية فقط بأنها أيديولوجية مكافئة على المستوى الرسمي لليبرالية أو
الشيوعية. لا تمتلك الغالبية العظمى من الحركات القومية في العالم برنامجا سياسيا أبعد
من الرغبة السلبية للاستقلال عن جماعة أو شعب آخر، ولا تقدم أي منها أجندة شاملة لتنظيم
اجتماعي اقتصادي. على هذا النحو، فإنها متوافقة مع المذاهب والأيديولوجيات التي
تقدم مثل هذه الأجندات. وفي حين أنها قد تُشكل مصدرا للصراع في المجتمعات الليبرالية،
لا ينشأ هذا الصراع من الليبرالية نفسها بقدر ما أنه ناشئ من حقيقة أن الليبرالية
المطروحة غير مكتملة. بالتأكيد يمكن تفسير قدر كبير من التوتر العرقي والقومي في
العالم من ناحية الشعوب التي أُجبرت على العيش في نظم سياسية غير تمثيلية لم تخترها.
في حين أنه يستحيل
استبعاد الظهور المفاجئ لإيديولوجيات جديدة أو تناقضات غير معترف بها سابقا في
المجتمعات الليبرالية، إذن، يبدو أن العالم الحالي يؤكد أن المبادئ الأساسية للمؤسسة
الاجتماعية السياسية لم تتبلور حتى الآن بشكل كبير منذ 1806. كثير من الحروب والثورات
التي حدثت منذ ذلك الوقت خيضت باسم الأيديولوجيات التي ادعت أنها أكثر تقدما من
الليبرالية، والتي تم الكشف عن ذرائعها في نهاية المطاف من التاريخ. في غضون ذلك،
ساعدت على انتشار الدولة العالمية المتجانسة إلى النقطة التي يمكن أن يكون لها
تأثير كبير على الطابع العام للعلاقات الدولية.
IV
ما هي الآثار
المترتبة لنهاية التاريخ على العلاقات الدولية؟ من الواضح أن الكتلة العظمى من دول
العالم الثالث لا تزال غارقة كثيرا في التاريخ، وستكون أرضا للصراع لسنوات عديدة
قادمة. ولكن دعونا نركز في الوقت الحالي على الدول الأكبر والأكثر تطورا في العالم
التي تضطلع في النهاية بالجزء الأكبر من السياسة العالمية. من غير المرجح أن تنضم
روسيا والصين إلى الدول المتقدمة في الغرب كمجتمعات ليبرالية في أي وقت في
المستقبل المنظور، ولكن لنفترض للحظة أن الماركسية اللينينية لم تعد العامل الذي
يقود السياسات الخارجية لهذه الدول - وهو احتمال ، إن لم يوجد حتى الآن، جعلت منه
السنوات القليلة الماضية إمكانية حقيقية. كيف ستختلف السمات الكلية لعالم غير
مؤدلج عن تلك التي نعرفها في مثل هذا المنعطف الافتراضي؟
الإجابة
الأكثر شيوعا - ليس كثيرا. لان هناك اعتقاد كبير لدى كثير من المراقبين للعلاقات
الدولية أن هناك تحت جلد الأيديولوجيا نواة صلبة لمصلحة قومية ذات قوة عظمى تضمن
مستوى عاليا نسبيا من التنافس والصراع بين الأمم. في الواقع، وفقا لإحدى مدارس
نظرية العلاقات الدولية الأكاديمية الشهيرة، يتلازم الصراع في النظام الدولي على
هذا النحو، ولفهم آفاق الصراع يجب على المرء أن ينظر إلى شكل النظام - على سبيل
المثال، إذا ما كان ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب – بدلا من النظر في سمة الأمم
والأنظمة التي تُشكله. في الواقع تطبق هذه المدرسة وجهة نظر هوبز السياسية في
العلاقات الدولية، وتفترض أن العدوان وانعدام الأمن هي سمات كونية للمجتمعات
البشرية وليست نتاج ظروف تاريخية محددة.
يأخذ المؤمنون
بهذا الخط من الفكر العلاقات التي كانت قائمة بين المتقاسمين لميزان القوة الكلاسيكي
الأوروبي في القرن التاسع عشر كنموذج لما سيبدو عليه العالم المعاصر غير المؤدلج. أوضح
تشارلز كروثامر، على سبيل المثال، مؤخرا أنه إذا تم تجريد الاتحاد السوفييتي من
الأيديولوجية الماركسية اللينينية نتيجة لإصلاحات غورباتشوف سيرتد سلوكه إلى
إمبراطورية روسيا القرن التاسع عشر. وبينما يرى أن هذا أكثر طمأنينة من التهديد
الذي تشكله روسيا الشيوعية، يُلمح إلى أنه هنا سيكون هناك درجة عالية من التنافس
والصراع في النظام الدولي، تماما كالذي كان بين روسيا وبريطانيا أوألمانيا في عهد
القيصر فيلهلم في القرن الماضي. هذه، بالطبع، وجهة نظر ملائمة للأشخاص الذين
يريدون أن يُقرِّوا بوجود تغيير كبير في الاتحاد السوفياتي، لكن لا يريدون تحمل مسؤولية
تزكية إعادة توجيه السياسات الراديكالية الضمنية في هذا الرأي. ولكن هل هذا صحيح؟
في الواقع،
إن فكرة أن الأيديولوجيا هي بنية فوقية مفروضة على البنية التحتية لمصلحة ذات قوة عظيمة
دائمة هي أطروحة موضع شك كبير. لأن الطريقة التي تُعرِّف بها أي دولة مصالحها القومية
ليست عالمية بل تقوم على نوع من الأساس الأيديولوجي المسبق، تماما كما رأينا أن
السلوك الاقتصادي يُحدد من قبل حالة مسبقة من الوعي. في هذا القرن، تبنت الدول مذاهب
مفصلية للغاية مع أجندات سياسة خارجية واضحة لإضفاء الشرعية على التوسع، مثل
الماركسية اللينينية أو الاشتراكية القومية.
استند السلوك
التوسعي والتنافسي للدول الأوروبية في القرن التاسع عشر على أساس لم يكن أقل
مثالية، لقد حدث هكذا لدرجة أن الأيديولوجيا التي كانت تقوده كانت أقل وضوحا من عقائد
القرن العشرين. في المقام الأول، كانت معظم المجتمعات الأوروبية
"الليبرالية" غير ليبرالية بقدر إيمانها بشرعية الإمبريالية، أي حق أمة في
حكم أمة أخرى دون اعتبار لرغبات المحكومين. تفاوتت مبررات الامبريالية من أمة إلى
أمة، من الإيمان الفظ بشرعية القوة، خصوصا عند تطبيقه على غير الأوروبيين، إلى عبء
الرجل الأبيض ومهمة التنصير الأوروبية، إلى الرغبة في إدخال الشعوب الملونة إلى ثقافة
رابلييه وموليير. ولكن أيا كان الأساس الأيديولوجي المُحَدد، آمنت كل بلد "متقدمة" بقبول حكم الحضارات
العليا للحضارات الدنيا - بما في ذلك، عرضا، الولايات المتحدة فيما يتعلق بالفلبين.
وأدى ذلك إلى حملة لتوسع إقليمي محض متعاظم في النصف الأخير من القرن ولعبت دورا
كبيرا في اندلاع الحرب الكبرى.
كانت الثمرة
المتطرفة والمشوهة لإمبريالية القرن التاسع عشر هي الفاشية الألمانية، الإيديولوجيا
التي تبرر حق ألمانيا ليس في حكم الشعوب غير الأوروبية فحسب ، ولكن كل الشعوب غير الألمانية.
لكن في وقت لاحق على ما يبدو مثَّل هتلر مسارا مَرَيضا في طريق الخط العام للتطور
الأوروبي، ومنذ هزيمته المدوية، كانت شرعية أي نوع من التوسع الاقليمي فاقدة
للمصداقية تماما. منذ الحرب العالمية
الثانية، تم إبعاد وحرمان القومية الأوروبية من أي تأثير حقيقي في السياسة الخارجية، وترتب
على ذلك أن نموذج سلوك القوة العظمى في القرن التاسع عشر أصبح مفارقة تاريخية
خطيرة. كان الشكل الأكثر تطرفا للقومية شهدته أي دولة أوروبية غربية منذ عام 1945
هو الديجولية، التي اقتصر تأكيدها للذات إلى حد كبير على المضايقة في مجالي
السياسة والثقافة. بالنسبة للجزء من العالم الذي وصل إلى نهاية التاريخ، الحياة
الدولية منشغلة بالاقتصاد أكثر من انشغالها بالسياسة أو الاستراتيجيا.
تحافظ الدول
المتقدمة في الغرب على المؤسسات الدفاعية، وفي فترة ما بعد الحرب نافست بقوة على
النفوذ في مواجهة التهديد الشيوعي في جميع أنحاء العالم. وقد كان الدافع وراء هذا
السلوك، التهديد الخارجي من الدول التي لها أيديولوجيات توسعية صريحة، ولن يوجد في
غيابها. عند أخذ نظرية " الواقعية الجديدة" على محمل الجد، فإن على
المرء أن يؤمن بأن السلوك التنافسي "الطبيعي" سيعيد تأكيد نفسه بين دول منظمة التنمية
والتعاون الاقتصادي لو اختفت روسيا والصين من على وجه الأرض. أي أن ألمانيا
الغربية وفرنسا ستحشدان ضد بعضهما البعض كما فعلتا في عام 1930، وسترسل أستراليا
ونيوزيلندا مستشارين عسكريين لمنع تقدم بعضهما البعض في أفريقيا، وسيتم تحصين حدود الولايات المتحدة وكندا. مثل هذا
الاحتمال هو، بطبيعة الحال، مثير للسخرية: بانتهاء الأيديولوجية الماركسية
اللينينية، من المرجح أن احتمالية رؤية "الأسواق المفتوحة" للسياسات
العالمية أكبر من فكرة تفكك السوق الأروبية المشتركة والعودة إلى تنافسية القرن
التاسع عشر. في الواقع، كما تثبت تجربتنا في التعامل مع أوروبا بشأن مسائل مثل
الإرهاب أو ليبيا ، فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير منا في الطريق الذي ينكر شرعية
استخدام القوة في السياسة الدولية، حتى في الدفاع عن النفس.
الافتراض
التلقائي أنه بحرمان روسيا من أيديولوجيتها الشيوعية التوسعية يجب أن تعود إلى حيث
كان القياصرة قبيل الثورة البلشفية هو افتراض غريب. فهو يفترض أن تطور الوعي
البشري توقف في ذلك الزمن، وأن السوفييت الذين يأخذون الأفكار العصرية حاليا في
مجال الاقتصاد، سيعودون إلى سياسة خارجية تتأخر قرنا عن بقية أوروبا. ليس هذا
بالتأكيد ما حدث للصين بعد أن بدأت عملية الإصلاح. اختفت التنافسية والتوسعية الصينية
على الساحة العالمية تقريبا: لم تعد بكين ترعى حركات التمرد الماوية أو تحاول مد نفوذها
في بلدان أفريقيا النائية كما فعلت في ستينيات القرن العشرين. لا يعني هذا أنه لا
توجد جوانب إشكالية في السياسة الخارجية الصينية المعاصرة، مثل البيع المتهور لتكنولوجيا
الصواريخ الباليستية في الشرق الأوسط؛ وتُواصل جمهورية الصين الشعبية إظهار سلوك
القوة العظمى التقليدية في رعايتها للخمير الحمر ضد فيتنام. لكن المثال السابق فسَّر
دوافع تجارية وهذا الأخيرهو من بقايا المنافسات العقائدية في زمن سابق. تشبه الصين
الجديدة فرنسا الديغولية أكثر بكثير من ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى.
السؤال
الحقيقي للمستقبل، مع ذلك، هو عن الدرجة التي تمثلت فيها النخب السوفيتية وعي
الدولة العالمية المتجانسة في أوروبا ما بعد هتلر. من كتاباتهم ومن اتصالاتي
الشخصية معهم، ليس هناك شك في ذهني بأن المثقفين السوفييت الليبراليين الملتفين
حول غورباتشوف قد وصلوا إلى رؤية نهاية التاريخ في وقت قصير جدا، ويرجع ذلك إلى حد
كبير إلى الاتصالات منذ عهد بريجنيف مع الحضارة الأوروبية الكبرى من حولهم.
"التفكير السياسي الجديد" هو العنوان العام لآرائهم، يصف عالما تسيطرعليه
المخاوف الاقتصادية، الذي لا توجد فيه أسباب أيديولوجية لصراع كبير بين الأمم،
وبالتالي فإن استخدام القوة العسكرية فيه يصبح أقل شرعية. وكما قال وزير الخارجية
شيفاردنادزه في منتصف عام 1988:
لم يعد الصراع بين نظامين متعارضين
اتجاها مُحَدِدا للعصر الحالي. في المرحلة الحديثة، تكتسب القدرة على تنمية الثروة
المادية بمعدل متسارع على أساس العلم المتقدم ومستوى عالٍ من المهارات
والتكنولوجيا، وتوزيعه بعدالة، ومن خلال الجهود المشتركة لاستعادة وحماية الموارد الضرورية
لبقاء البشرية تكتسب أهمية حاسمة.
إلا أن الوعي
الما بعد تاريخي الذي يمثله "الفكر الجديد" هو احتمال مستقبلي واحد فقط للاتحاد السوفياتي. لقد كان هناك دائما تيار قوي
جدا للشوفينية الروسية الكبيرة في الاتحاد السوفياتي، التي وجدت التعبير الحر منذ
ظهور الغلاسنوست. قد يكون من الممكن العودة لفترة من الوقت إلى الماركسية
اللينينية التقليدية كنقطة تجمع بسيط لأولئك الذين يريدون استعادة السلطة التي بددها
غورباتشوف. ولكن كما هو الحال في بولندا، ماتت الماركسية اللينينية كأيديولوجية تعبوية:
لا يمكن جعل الناس يعملون بجد أكبر تحت لوائها، وفقد معتنقوها الثقة في أنفسهم.
خلافا لمروجي التقاليد الماركسية اللينينية، يؤمن القوميون المتحمسون في الاتحاد
السوفياتي بقضية سلافيتهم بحماس، ويشعر المرء أن البديل الفاشي لم يُخرِج نفسه
خارج اللعبة تماما.
الاتحاد
السوفياتي، إذن، على مفترق طرق: يمكنه أن يبدأ من الطريق التي راهنت عليها أوروبا
الغربية منذ خمسة وأربعين عاما مضت، وهو المسار الذي سارت عليه معظم آسيا، أو يمكنه
أن يدرك فرادته و يبقى عالقا في التاريخ. سيكون خياره بالغ الأهمية بالنسبة لنا، نظرا
لحجم الاتحاد السوفيتي وقوته العسكرية، لأن تلك القوة تستمر بالاستحواذ علينا وتبطئ إدراكنا الذي
جسدناه بالفعل على الجانب الآخر من التاريخ.
V
خروج الماركسية اللينينية من الصين أولا ومن ثم من
الاتحاد السوفييتي يعني موتها كأيديولوجيا حية ذات أهمية تاريخية للعالم. في حين
قد يكون هناك بعض المؤمنين الحقيقيين المعزولين في أماكن مثل ماناغوا أوبيونغ يانغ
أو كامبريدج في ماساشوستس، إلا أنه في الحقيقة لا توجد دولة كبيرة فيها قلق مستمر
يقوض بالكامل ذرائعها عن كونها في طليعة التاريخ الإنساني. وفاة هذا الفكر يعني تنامي
"الأسواق المفتوحة" للعلاقات الدولية، وتضاؤل احتمال صراع
واسع النطاق بين الدول.
لا يعني هذا
بأي حال من الأحوال نهاية الصراع الدولي في حد ذاته. لأن العالم في تلك المرحلة سيكون
منقسما بين جزء تاريخي وجزء ما بعد تاريخي. وسيكون الصراع ممكنا بين الدول التي في
التاريخ، وبين تلك الدول في نهاية التاريخ. سيظل هناك مستوى عالٍ وربما متصاعدا من
العنف العرقي والقومي، لأن تلك هي الدوافع التي لم تُستبعد بالكامل، حتى في أجزاء
من العالم الما بعد تاريخي. سيبقى للفلسطينيين والأكراد والسيخ والتاميل والإيرلنديين
الكاثوليك والوالونيين (جماعة عرقية في منطقة والونيا في بلجيكا وبعض القرى في
شمال فرنسا) والأرمن والأذريين مظالمهم التي لم تُحل. وهذا يعني أن الإرهاب وحروب
التحرير الوطني ستظل بندا هاما على جدول الأعمال الدولي. لكن الصراعات الكبيرة ستشمل
الدول الكبيرة التي لا تزال واقعة في قبضة التاريخ، والتي تبدو أنها تخرج من
المشهد.
ستكون نهاية التاريخ لحظة محزنة
للغاية. وسوف يحل محل النضال من أجل الاعتراف، والاستعداد للمخاطرة بحياة المرء من
أجل هدف مجرد، والصراع الايديولوجي في جميع أنحاء العالم الذي استدعى جرأة وشجاعة وخيالا
ومثالية سيحل محلها الحسابات الاقتصادية، والحلول اللانهائية لمشاكل التقنية
والشواغل البيئية وتلبية طلبات المستهلكين المتطورة. في الفترة الما بعد تاريخية
سوف لن يكون هناك فن ولا فلسفة، سيكون هناك رعاية لانهائية لمتحف التاريخ البشري.
أستطيع أن أشعر في نفسي، وأن أرى في الآخرين من حولي حنينا قويا لزمان وجود
التاريخ. في الواقع سيستمر هذا الحنين إلى الماضي في تأجيج التنافس والصراع حتى في
العالم الما بعد تاريخي لوقت قصير في المستقبل. على الرغم من إقراري بحتميته، لدي
مشاعر متشككة أكثر في الحضارة التي تم إنشاؤها في أوروبا منذ عام 1945، مع فروعها
الأطلسية والشمال آسيوية. ربما سيعمل هذا المشهد من قرون من الملل عند نهاية
التاريخ على ابتداء التاريخ مرة أخرى.
13\7\2015
No comments:
Post a Comment