ما يزال عالقا في الذاكرة وصية
عبدالعزيز آل سعود بتوريث العرش من بعده بين أبنائه. لكن إقصاء مقرن بن عبدالعزيز
عن ولاية العهد وتنصيب محمد بن نايف بدلا عنه ليحل جيل من الأحفاد محل الأبناء، ثم
إقصاء ابن نايف ليحتل محمد بن سلمان ولاية العهد، أثار كل ذلك الكثير من الجدال
حول مسالة التوريث بين الأحفاد وما قد تؤدي إليه من خلافات.
ومن المعروف – شكليا على الأقل –
أن تنصيب ملك في السعودية كان يتم عبر آلية من شقين داخلية وخارجية. أما الداخلية
فتتمثل بموافقة الأمراء ذوي النفوذ من الأسرة الحاكمة على الترشيح مصحوبة بنوع من
محاصصة المكاسب على صعيدي المال والمناصب السيادية في الحكومة التي يرأسها الملك.
يتبع ذلك مبايعة المفتي وهيئة كبار " العلماء ". أما الشق الأهم فهو
الخارجي المتمثِل بطمأنة الجانب الأمريكي خصوصا والغربي عموما أن سياسة الملك
القادم داخليا وخارجيا لن تتناقض مع مصالح هذه الأطراف.
لكن مع انتهاء أبناء عبدالعزيز
واعتلاء آخِر الأقوياء منهم العرش، الملك سلمان، بدأ تناحر الأحفاد، وبالأخص محمد
بن سلمان الأكثر طموحا لاستلام السلطة. لكنه لم يسر ضمن الإجراءات التقليدية داخليا،
فقد استعدى الأمراء عبر مصادرة ثرواتهم ومنعهم من السفر وحبس بعضهم الآخر. كما قام
بنفس الإجراءات مع بعض الأسماء الوازنة اقتصاديا وسياسيا من الشخصيات السعودية من
خارج الأسرة الحاكمة. ثم قام بتحجيم دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر
سلسلة من المراسيم التي قلصت من صلاحيتها القضائية والتنفيذية لصالح وزارة
الداخلية ثم الطلب منها ومن هيئة كبار العلماء التأييد العلني لإجراءته تلك.
كل هذه الإجراءات قادت إلى نقمة
الأمراء وحالة من الململة داخل المؤسسة الدينية السعودية، ما استلزم إدخال عنصر
جديد في معادلة التوريث والحكم، ذلك العنصر هو " رعايا الدولة " من أجل
إحداث نوع من التوازن او الغلبة عبر حشد التأييد الشعبي " لإصلاحات" ولي
العهد الجديد.
قام ولي العهد بإعلان مجموعة من
المراسيم الإصلاحية في شكلها والتي لا تعدو كونها نوع من الرشوة لتأمين التأييد
الشعبي. تمثلت تلك الإجراءات بالسماح للمرأة بقيادة السيارة وحضور مباريات كرة
القدم وإعادة فتح دور السينما وإنشاء مؤسسة تحمل إسم " هيئة الترفيه".
أما على الصعيد الخارجي فتمثلت الإجراءات بتقديم رشى عبر تخصيص مبالغ فلكية
للاستثمار في الولايات المتحدة ودول المنظومة الأوروبية الغربية، ما ضمن لابن
سلمان تمرير إجراءاته الداخلية بهدوء، ووصل الأمر للتأييد من الصحف الغربية
الناطقة باسم لوبيات الصناعة والطاقة والمصارف في تلك الدول. كذلك طرحت السعودية
نفسها حائط صد لأطماع وطموحات إيران بالتمدد الاقتصادي والسياسي في المنطقة العربية
في إطار تنافسها مع تركيا وإسرائيل.
أما على صعيد العلاقة مع إسرائيل،
فرغم عدم إعلان سياسة رسمية تدفع باتجاه تطبيع العلاقة معها، إلا أن المصافحات
وتبادل الأحاديث التي قام بها الأمير تركي الفيصل مدير الاستخبارات السعودي السابق
لضباط استخبارات اسرائيليين في مؤتمرات أمنية دولية، ثم زيارة الجنرال السعودي
المتقاعد أنور ماجد عشقي لإسرائيل، كل ذلك يشير إلى أن السياسة السعودية سائرة
باتجاه التطبيع مع إسرائيل، لكن بانتظار انفراجات سياسية وتسويات إقليمية تصب في
مصلحة السعودية.
بالعودة إلى التعقيدات الداخلية
وخاصة في ما يسمى سياسة الانفتاح الداخلي، قام الأمن السعودي باعتقال ناشطات
وناشطين عملوا سابقا على المطالبة ببعض ما تم السماح به. هذه الاعتقالات تشير إلى
أن هذا التغيير شكلي ولن يتطور أكثر من ذلك، لأن الرسالة من الاعتقالات هي أن
التغييرات لم تتم بسبب ضغوطات الناشطين ، لكن بأمر وتَفضُل من " ولي
الأمر" وبالتالي يُمنع نسبة الفضل لأحد غير ولي الأمر وغير ذلك سلب الحرية.
أما بخصوص ما يُروَج عن وجود مشروع سعودي للوصول إلى دولة إقليمية ذات تأثير قوي
وواضح في السياسات الإقليمية، فلا يمكن الوصول إلى قناعة بها لأن المؤشرات لا تدل
على التوجه نحو الإنتاج الصناعي والزراعي الذي يتيح لها الانعنتاق من الاعتماد على
النفط، على الأقل في المدى المنظور. لذلك لا يوجد ما يدعو للتفاؤل. ويدعم هذا
الرأي حالة الاستنزاف لاقتصادات دول الخليج عموما والسعودية خصوصا، في حروب
المنطقة من ليبيا إلى العراق وسوريا واليمن. فما تم إنفاقه في هذه الحروب وضع
الاقتصادات الخليجية في حالة من التراجع والعجز، ما دفع حكومات تلك الدول إلى
القيام بإجراءات اقتصادية قاسية لم يعرفها " رعاياها" من قبل مثل فرض
ضرائب ورفع أسعار محروقات ومواد غذائية، ما زاد في نسب الفقر والبطالة. ولا يدل
استمرار تلك الدول بالعمل نيابة عن الدول الغربية في الإقليم على محاولة استحداث
سياسات ونهج اقتصادي مستقل عن إملاءات السياسة الغربية في وجه المحور الصاعد الذي
تقوده روسيا والصين. فهل هناك ما يُسمى "مشروع سعودي أو عربي
واضح الملامح طموح بعيدا عن سياسات التبعية للمنظومات السياسية الدولية القوية
"؟ أعتقد أن الإجابة الأقرب للعقل
والمنطق هي لا. هناك تغير في التعاطي الداخلي والخارجي وجوهر هذا التغير هو
الاندفاع السافر من قبل أنظمة المنطقة العربية وعلى رأسها الخليجية من أجل العمل
كوكلاء للمنظومات العالمية المتحكمة بالعالم لإبادة كل مبادرة إنسانية تسعى إلى
الحد من توحش الرأسمالية التي لا تتوانى عن طحن دول بشعوبها من أجل المزيد من
مراكمة الثروات والتحكم بمصير الكوكب البائس.
No comments:
Post a Comment