بحث
وإعداد فتح كساب
بدء شعور العرب بذاتهم
كذات مستقلة عن الدولة العثمانية والعمل على الاستقلال منذ نهاية القرن التاسع
عشر، حيث طُرِحت أفكار ذات مضامين أسلامية ، كانت بمجملها رومانسية تبحث عن فردوس
مفقود لم يكن له وجود إلا في رؤوس أصحابه. وتلخصت تلك الأطروحات بفكرة الجامعة
الإسلامية التي نظَّر لها الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم ممن ساندوا أو
تبنوا الفكرة. وتزامنت الفكرة الإسلامية تقريبا مع فكرة العروبة وتميز الشخصية
العربية عن الشخصية العثمانية. وبتأثير من الأفكار القومية الأوروبية اختلف طرح
القومية في القرن العشرين عن سابقه ومثّل ذلك ظهور حزب البعث العربي. وكانت فكرة
الحزب تستند على عروبة البشر والجغرافيا وعلى فكرة الحالة الثقافية المتمثلة
بالإسلام كعاملي توحيد للبشر على هذه البقعة من العالم. ثم ما لبثت الساحة أن
استقبلت الماركسية كحالة أممية مرشحة للتغلب على الأفكار التي سبقتها بحجة علميتها
القادرة على الوصف والتحليل وطرح الحلول للمشكلات. ولكن لكون عقلية "النخب
العربية" قائمة على النقل والتمترس حول ما تنقل تحولت الطروحات الثلاث إلى
أقانيم مقدسة يحرم على أي كان الاقتراب منها بهدف النقد والتطوير. واستمر الحال
كذلك حتى ظهر تيار رابع يدعو إلى ضرورة التعامل مع الراهن العربي بواقعية علمية
فحواها أن الوحدة على إحدى الأيديولوجيات الثلاث باتت حالة أسطورية حنينية وأنه من
الحكمة التسليم بالواقع القُطري أو الوطني المحلي في كل دولة. لكنه جوبه بموجة من
التكفير والتخوين والاتهام بالعمالة من حرس الأيديولوجيات السابق ذكرها وكذلك
هوجِم من الأنظمة الحاكمة لأن مثل هذا الطرح يحتاج لإعادة رسم للحالة السياسية
الراهنة والعمل على تأسيس شرعيات سياسية جديدة لاستكمال التأسيس والبناء. لكن هذا
الطرح بقي في حالة المشافهة ولم يرتق ليكون مادة مكتوبة متداولة بشكل علمي ليتم
استيعابها مبدئيا على الأقل. تم طرح
مفاهيم من مثل "الهوية، والهوية الوطنية،..........الخ. وعند محاولتي البحث
في المفاهيم المذكورة، لم أعثر سوى على بعض التعريفات المترجمة المُدرجة في بعض
أوراق العمل المُقدَمة لمؤتمرات أو ندوات سياسية، لكنها لا ترتقي لاعتبارها مادة
ثقافية إبداعية نابعة من فهم علمي عميق للبيئة التي تُطرح فيها. ثم عاد هذا الطرح
الواقعي للظهور مع نجاح بعض الانتفاضات في الإطاحة برؤوس بعض الأنظمة الحاكمة
والإلحاح الشديد على أهمية التأسيس لشرعية سياسية مستمدة من الخصوصيات المحلية
وضرورة البحث عن قاسم مشترك يوحد المجاميع البشرية التي تشتت بعد سقوط الموحِد
الدكتاتور. لذا قررت البدء بالبحث عن جذور هذه المفاهيم من منابعها لمحاولة الفهم
بشكل أفضل.
التأصيل لكلمة هوية:
عند الحاجة لتعريف أو تحديد أمر ما بدقة، يلجأ المرء للقواميس للبحث عن
معنى. لا يوجد في المعاجم
العربية ما يشير إلى المعنى الحديث للمفهوم سواء كان سياسيا أو اجتماعيا أو
ثقافياً. وأكثر التعريفات ذات الصلة بكلمة هوية نجدها في قاموس أكسفورد في طبعته
الثانية الصادرة عام 1989 وهو كالآتي: بقاء الشخص أو الشيء على حاله في كل الأوقات وكل
الظروف؛حالة كون الشخص أو الشيء نفسه فقط وليس أي شيء آخر.
ما نلاحظه في هذا التعريف للكلمة أنه يركز على
أمرين أساسيين في التعريف وهما الثبات الشكلي الظاهري في الحالة الأولى، والتميز
بالمقارنة مع الآخرين في الحالة الثانية. لكن المفهوم لا يبقى حبيس المعاجم.
فاللغة كائن حي يطرأ عليها ما يطرأ على الناطقين بها. لقد تحول المفهوم من مجرد
مادة تعريف جامدة تحدثت عن البشر وغيرهم في التعريف إلى مادة بحثية توسعت لدرجة أن
ما كُتب فيها قاد إلى تفرعات مفهومية جديدة.
ما هي الهوية كما نعرفها اليوم؟
حسب ما يرى جيمس فيرون،في بحثه المعنون " ماهي الهوية؟" الكلمة
كما نستعملها اليوم, فإن الهوية كما نعرفها اليوم ظهرت لأول مرة بشكل واضح في
أعمال عالِم النفس إريك إريكسون في خمسينيات القرن الماضي وبالأخص في أبحاثه
المنشورة تحت عنوان "أزمة الهوية". وهي تستمد كل معانيها
الحداثية المُركبة من أعماله. بحلول السبعينيات من القرن المنصرم اكتسب المصطلح وجودا
بذاته في اللغة المتداولة وفي العديد من مجالات العلوم الاجتماعية. وبظهور نظريات ما بعد
الحداثة والجدال حول التعددية الثقافية، أصبح مؤرخو وأنثروبولوجيو وغالبية باحثي
العلوم الإنسانية في أواخر الثمانينيات والتسعينيات يعولون بشكل كبير على مسألة
الهوية عند محاولة فهم الثقافة السياسية للسلالة والطبقة والعِرق والنوع الاجتماعي
والجنس والمواطنة وجوانب اجتماعية أخرى.
كما هو مذكور لم يبقِ
المصطلح حبيس علم النفس وإنما صار موضوعا بحثيا جدليا دخل إلى علم الاجتماع
والعلوم السياسية وظهرت مجالات بحثية جديدة من مثل الهوية الاجتماعية والهوية
السياسية والهوية الفردية وهوية الجماعات.......الخ. واستعراض التعريفات التي
قُدمت للمصطلح يساعدنا على إلقاء الضوء
على تطور المفهوم.
يقدم صامويل هنتنغتون
هذا التعريف للهوية ويُتبعه بالتوضيح اللاحق له ليُلقي المزيد من الضوء على
المفهوم ومصادره كما يراها بالاتفاق مع باحثين آخرين في كتابه المعنون " من
نحن".
الهوية: إحساس الفرد
أو الجماعة بالذات، وهي نتاج الوعي بالذات وتتلخص بأن الفرد أو الجماعة تمتلك صفات
تُشكل كينونة تميزها عن الآخرين. والهويات مهمة لأنها تُشكل سلوك الناس.
وهناك ملامح مهمة تخص
الهوية أو الهويات وهي :
·للأفراد والجماعات هويات، لكن الهوية الفردية تتحدد من
خلال هوية الجماعة. ويمكن للهويات الفردية الفرعية أن تتغير تبعاً لظروف أو
مستجدات معينة.
·تنشأ الهويات نتيجة لوجود درجات متفاوتة من الضغوط
والتطلعات والحريات؛ حيث يعرفها بينديكت أندرسون بأنها " مجتمعات أو ذوات
متخيلة، إنها ما نعتقده عن أنفسنا وما نطمح أن نكون".
·للأفراد وإلى حد ما الجماعات هويات متعددة. وقد تكون هذه
الهويات نَسَبية أو مناطقية أو اقتصادية أو ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو
وطنية.
·يتم تعريف أو تحديد الهوية بالذات، ولكنها أيضا نتاج
التفاعل بين الذات والآخرين. ويمكن لمجموعة من الناس أن تطمح للانتساب لهوية
معينة، لكن لن يستطيعوا تحقيق ذلك إلا إذا رحب بهم أصحاب الهوية.
·الأهمية النسبية للهويات البديلة بالنسبة للأفراد
والجماعات ذات طبيعة ظرفية. أي أن
الجماعات قد تقوم بالتركيز على جانب معين من جوانب هويتهم لتأكيد أو نفي ارتباطهم
بمجموعة أخرى.
مصادر
الهوية
يرى هنتنغتون أن هناك
عدد لا نهائي من المصادر المحتملة للهوية،
لكن أكثرها شيوعا بين الباحثين- مع ما لها من تفريعات – هي المصادر
التالية:
·النَّسَبي : مثل
العمر والجنس وصلة الدم والعرق.
·الثقافي: القبيلة والعشيرة واللغة والجنسية والدين
والتمدن.
·المناطقي: الجوار والقرية والبلدة والمدينة والمقاطعة
والولاية.
·السياسي: الفصيل والقائد ومجموعات المصالح والحركات
والقضايا والأحزاب والأيديولوجيا.
·الاقتصادي: العمل والمنصب والحرفة ومجموعات العمل
والقطاعات.
·الاجتماعي: الأصدقاء والنوادي والفرق.
وقد ظهر بعد ذلك مصطلح
الهوية الوطنية في العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي. وظهرت له تعريفات مختلفة
كانت بشكل من الأشكال تقترب أحياناً من مفهوم الأمة وأحياناً أخرى بمفهوم الدولة
الأمة.
ويعرف أنتوني سميث في كتابه المعنون "
الهوية الوطنية" الصادر عام 1991 الأمة بأنها مجموعة بشرية معينة تشترك بأرض
تاريخية وأساطير وذاكرة تاريخية وثقافة واقتصاد مشتركة وحقوق وواجبات قانونية
يشترك فيها الجميع.
ويعرف سميث الهوية الوطنية بأنها" وجود حس
بمجتمع سياسي وتاريخ وأرض ووطن ومواطنة وقيم وتقاليد مشتركة"، ويضيف
بأن" الأمم يجب أن يكون لها مقياس للثقافة المشتركة والأيديولوجيا المدنية
وفهم وتطلعات مشتركة وأفكار ومشاعر، تساهم كلها في صهر السكان في بوتقة
الوطن". وبالنسبة له فإن مكونات الهوية الوطنية تتضمن:
·أرض أو وطن تاريخي.
·أساطير وذاكرة تاريخية مشتركة.
·ثقافة جمعية مشتركة.
·حقوق وواجبات مشتركة لجميع أفراد الأمة.
·اقتصاد مشترك مع وجود أرض تتيح الحركة للأفراد.
وتعتقد الباحثة
مونتيسيرات غيبيرنو في بحثها المعنون " أنتوني سميث: حول الأمم والهوية
الوطنية, تقييم نقدي" الصادر عام 2004 أن سميث يخلط بين مفهومي الأمة والدولة بوضعه
الحقوق والواجبات ضمن تعريفه للأمة. وأعتقد كذلك أنه خلط مفهومه للأمة بمفهومه
للهوية الوطنية. وأعني بذلك أنه قد تتفق مجموعات عرقية أو دينية مختلفة على العيش
على بقعة جغرافية معينة على أسس اقتصادية أو مصلحية آنية لمجابهة مستجد ما. وتُعرف غيبيرنو الأمة بأنها" مجموعة بشرية واعية لتشكيل
مجتمع يتشاركون فيه ثقافة مشتركة ومرتبطين بأرض ذات حدود مُرسّمة بوضوح يربطهم
ماضٍ مشترك ومشروع مشترك من أجل مستقبلهم ومؤهلين لممارسة حق حكم ذاتهم".
وقد توسع البحث بعد
ذلك في موضوع الهوية الوطنية مقارنة أو تفضيلا لشكل منها على الآخرعلى شكل ثنائيات
متضادة، يُفترض في الأول أنه الأفضل والثاني هو الأسوأ من مثل: المدني – العرقي،
السياسي – الثقافي، الثوري – القَبَلي، المنفتح – المنغلق، العقلاني الترابطي –
العضوي الغامض "الغيبي". وبالغ البعض منهم في ربط الهوية الوطنية بالأصول
التاريخية أو العرقية حيث توصل سميث إلى أن أصول الأمم والهويات الوطنية موجودة
ضمن الحالة الإثنية كشكل ما قبل حداثي للهوية الثقافية الجامعة. ويظهر ذلك جليا في
تعريفه للإثنية أو العرقية المؤصلة:
مجموعة بشرية معينة ذات أساطير أسلاف وتاريخ وثقافة مشتركة مرتبطة بمكان ذي حدود
واضحة ولديها حس بالتضامن. أنتوني سميث كتاب "الأصول العرقية للأمم"
1986 .
وبدخول علم النفس على
الدراسات السياسية وعلم الاجتماع السياسي، ربط بعض الباحثين السياسيين وعلى رأسهم
هنتنغتون مسألة تحديد تجمع بشري لهويته أو تعرّيفه لنفسه، بحاجته
"لآخر". أو "لعدو"، وذلك حسب اعتقاد فرويد "أن البشر مثل
الحيوانات أكثر ميلاً لحل خلافاتهم بالعنف وأن البشرية بحاجة لحكومة عالمية كُلية
القوة لمنع ذلك". وأعتقد أن تحديد الهوية لأي تجمع بشري يحتم وجود أعداء
وحلفاء، لأن وجود الأعداء يعمل على تماسك المجموعة والالتفاف حول " الهوية
المُتفَق عليها" والحلفاء لخلق حالة أكبر من الاطمئنان بأننا لن نُترك للتشتت
أو الفناء في حال عدم قدرتنا على مجابهة العدو.
الهوية الوطنية في القرن
الحادي والعشرين
تعتقد الباحثة مونتيسيرات غيبيرنو أن الهوية الوطنية " ظاهرة حديثة ذات طبيعة
مائعة وديناميكية تقود إلى مجتمع يشترك في مجموعة من الخصائص التي تؤدي إلى معتقد
ذاتي أن أعضاءه ذوو قرابة سلفية. والاعتقاد بالاشتراك في ثقافة وتاريخ وتقاليد ورموز
وقرابة ولغة ودين وأرض ولحظة تأسيس ومصير، يتم استحضارها بدرجات متفاوتة من الحدة
في أوقات وأماكن مختلفة بوساطة أناس يزعمون الاشتراك بهوية وطنية".
الهوية الجماعية
مقابل الفردية:
يمكن تحقيق المجتمع
الحر والديمقراطية عندما تقوم أمة ما بتشكيل هوية قوية ومستقلة. إلا أن الهوية
الوطنية لا يمكن تحقيقها في غياب وجود هويات فردية قوية. إن تقوية الهوية الذاتية
للأفراد تضمن تطور الهوية الوطنية في إطار من نظام ديمقراطي. ويعتقد ألبرتو ملوتشي
في بحثه " تشكيل الهوية الجماعية " الصادر عام 1996 أن " الهوية
الجمعية مفهوم تفاعلي تشاركي ينتج عن تفاعل أفراد لهم اهتمام بتوجيه أفعالهم
ومجالات فرصهم والمعيقات التي تحدث فيها أفعالهم. "
يقودنا الاستعراض
السابق للبحث عن المشتركات التي تعمل على بلورة الهوية الوطنية في ظل فشل الحالتين
الإسلامية والقومية بكل تنويعاتهما في خلق حالة إجماع تقود إلى خلق حالة سياسية
واعية ومتماسكة تستطيع التكيف مع مستجدات الأحداث أو التصدي بكل الأشكال لمحاولات
الهيمنة المباشرة أو غير المباشرة . فمن المشتركات اللافتة للنظر مثلا ضرورة وجود
أعداء. وهذا واضح جلي في السياسات الأمريكية والأوروبية. والمشترك الذي يجب إضافته
لقائمتنا التي لا نرى فيها سوى اللغة والدين، هي ضرورة وجود حلفاء وأن الارتباط
بهم يجب أن يكون على أساس من المصالح المشتركة وليس هيمنة طرف على آخر تحت مسمى
التحالف. ومن العوامل المثيرة للاهتمام في مسألة التأسيس لهوية شرطا استحضار
المصير ولحظة التأسيس؛ أي الربط الإيجابي مع الماضي وضرورة العمل على نقد ما تم
فيه من أخطاء وتجاوزها وتعزيز الإيجابيات للبناء عليها لمستقبل حقيقي يستطيع
التكيف مع كل مستجدات العصر الذي نعيش فيه. وكذلك شرط جدارة البشر بحكم أنفسهم.
وذلك يعني بالحد الأدنى التوافق الجماعي على إقامة نظام حكم بمبادرة ذاتية بعيدة
عن الهيمنة أو فرض أشخاص لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية مقابل تنفيذ أجندات من
فرضهم على البشر والجغرافيا.
وعند العودة للحالة
العربية نجد أن جميع بلدانها تأسست على معايير لا علاقة لها بما ذُكِر من شروط.
فقد تأسست هذه الدول بناءاً على رغبة وشروط خارجية لا علاقة لها بالداخل وتمثل ذلك
بالقوى الاستعمارية التي حكمت المنطقة بعد سقوط الدولة العثمانية. ويركز د.نصر محمد عارف على هذه المعضلة ونتائجها في بحثه المعنون ب " الأبعاد
الدولية للاستبداد السياسي في النظم العربية: جدلية الداخلي والخارجي" المنشور عام 2005حيث يقول:
"
وهنا نجد أن
الدولة العربية المعاصرة قد تأسست كليا أو جزئيا على مصدر خارجي للشرعية، فبهزيمة
الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى تم تقسيم العالم العربي الحديث، ورسم
خريطته على يد القوى الاستعمارية الأوروبية التي يرجع إليها الدور الأساسي في
تأسيس الدولة العربية الحديثة سواء بإعطاء صفة الدولة لكيانات اجتماعية لم تكن لها
سابقة تاريخية كوحدة إدارية مستقلة داخل دولة أو كيان سياسي أكبر ناهيك عن كونها
دولة، أو بإعادة تعريف الكيانات السياسية التاريخية وإعادة تحديد لحدودها
الجغرافية ومن ثم إعادة تركيب لشعبها. ومن ذلك نستطيع أن نخلص إلى أن شرعية تأسيس
الدولة في المنطقة العربية ذات مصدر خارجي إذ أنه لا توجد أدلة قانونية أو وثائق
تاريخية تحدد حدود أية دولة عربية إلا سجلات واتفاقيات ومراسيم الدول الأوروبية
التي استعمرت الوطن العربي ووضعت خريطته فيما بعد."
هل يترتب على ذلك مخاطر سياسية أو اجتماعية أو
اقتصادية تؤثر على حاضر تلك الدول ومستقبلها؟ أعتقد أن الإجابة المؤلمة على هذا
السؤال ستكون، نعم. لأن شروط التأسيس لأي دولة أو كيان سياسي ستكون الفيصل في رسم
حاضره وتحديد مستقبله. وطالما أن نظم الحكم تأسست على شرعية خارجية فإن المآلات
ستكون مجهولة تبعا لمصالح من أعطى الشرعية. يستطرد د.نصر محمد عارف
في وصف الحالة قائلا:
" وتأسيسا على ذلك فإن تدشين الدولة
العربية المعاصرة قد مهد للمصدر الخارجي للشرعية وذلك لأنه غرس مفهوما للدولة لا
يستطيع أن يستمر إلا إذا قام بعملية عمدية لتفليس المجتمع وإخصائه وتجريده من قواه
الذاتية، لأن الدولة في هذه الحالة لا يمكن لها أن تستمر دون ذلك لأنها ليست وليدا
شرعيا لحركة المجتمع وصيرورته كما هو الحال في الدول الأوروبية، وإنما كيانات فرضت
من أعلى رغما عن المجتمع الذي ما كان له أن يمنحها الولاء والانتماء إلا بعملية
صراع قوى كانت محصلته تقوية الدولة وإضعاف المجتمع. وبذلك تكون أولى خطوات
الاستبداد قد رسمت، وبواكير بذوره قد غرست في المجتمع العربي من خلال استبداد
الدولة على المجتمع، أو استبداد دول مختلفة متعددة على مجتمع واحد كل واحدة منها
تحاول أن تجذر وجودها في إقليم معين، وأن توجد لها شرعية وتقطع لها تاريخا وتبني
لها آثارا وتصطنع لها هوية مستقلة عن باقي المجتمع العربي في محيطها المباشر أو في
المحيط الأوسع. ولعل أي دراسة معمقة لسكان الحدود بين الدول العربية تثبت بما لا
يدع مجالا للشك أن أولى مظاهر الاستبداد في الواقع العربي هي استبداد الدولة
الحديثة على المجتمع العربي من خلال تمزيقه وتقطيعه وتفريق دمه بين القبائل
العربية الحديثة."
السؤال الآن عن النتائج المترتبة عن هذا الوجود
الهجين سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. لو بدأنا بالسياسي سنجد أن
الأنظمة ذات المصدر الخارجي للشرعية لا ترى في شعوبها سوى أمرين. الأول هو أن هذه
الجموع مصدر تهديد لوجودها، لأنها (الشعوب) لم تكن أساس وجود تلك الأنظمة مما
سيقود إلى تكريس الاستبداد والفساد في مؤسسات الدولة المختلفة لضمان بقاء واستمرار
تلك الأنظمة يقول الدكتور خليفة الكواري في بحثه المعنون
" الشقاق الأهلي من مصادر القابلية للاستبداد" الصادر في 16/5/2005 " إن القاسم المشترك بين أنظمة الحكم
العربية الملكية منها والجمهورية، هو حقيقة تغلب حكامها القسري على البلدان التي
يحكمونها دون تفويض من شعوبها، وحاجة هذا التغلب القسري دائما إلى تجديد آليات
الإحتواء وتحديث أدوات العنف وإبتكار سياسات إقصاء المعارضين معنويا ومادياً،
واجبارهم على الإنسحاب من الحياة العامة والتزام الصمت السلبي، أو دفعهم إلى
الانشقاق والتآمر وربما اللجوء إلى العنف حتى يقعوا في مصيدة الدولة ولعبتها
المفضلة بإعتبارها الجهة الشرعية لإحتكار العنف."
. والثاني أن هذه الشعوب ليست إلا جموعا من
العبيد لا عمل لها سوى الخدمة فقط. يقول د. عارف في بحثه السابق ذكره:
" دونما مبالغة نستطيع القول أن هناك
قانون يصل إلى حد الصدقية المطلقة يحكم علاقة التبعية للخارج (الاستبداد الداخلي)،
وهو أنه كلما زادت التبعية للأجنبي كلما تصاعد الاستبداد الداخلي، بحيث يكون
المواطن هو عبد العبد، ويكون الأجنبي هو سيد السيد، فممارسة الضغوط على الدولة
العربية وإذلال النخب العربية في العواصم الغربية حتى وإن كان هذا إذلال من أجل
تحقيق الإصلاح سيؤدي لا محالة إلى متوالية من الإذلال والاستبداد الداخلي بل سيؤدي
إلى تصاعد في استخدام القوة ضد المواطن مع تغطية ذلك بشعارات يضمن أنها ترضي
"سيد السيد" مثل "الحرب على الإرهاب" أو "مقاومة التعصب
الديني" أو "الضرب بيد من حديد على
الخارجين عن القانون" و"عن إجماع الأمة"...إلخ"
ونتيجة لارتباط الاقتصاد بالحالة السياسية فقد
جرى عليه ماجرى على السياسة. فكما تُدار المؤسسات السياسية بناءاً على الولاء لا
الكافاءة، تُدار المؤسسات الاقتصادية بنفس العقلية. وهذا سيقود إلى تفشي الفساد
وتخريب ونهب المُقدرات والمؤسسات الوطنية – التي من المفترض أن تكون مُلكا للعموم
لا المحاسيب. يعلق د. عارف عن هذه الحالة في نفس البحث قائلا:
" هذه الأمور كلها أدت إلى تزايد ممارسات
الاستبداد الداخلي في كل صوره. فالقضاء على القطاع العام وإحلال القطاع الخارجي
محله بعمليات غير مدروسة ومتعجلة لإرضاء أطراف خارجية أدى ألى بروز حالة معقدة من
الاستبداد والاستعباد في المجتمع، سواء مارستها الدولة أو الفئات المرتبطة بها
متمثلة في الرأسمالية الناهضة التي ورّثت القطاع العام ميراثا غير شرعي. وهكذا،
فإن الدولة التي ظهرت في العالم الثالث في مرحلة ما بعد الاستعمار لم تكن سوى حالة
استبدادية تستجمع القوى في يدها، وتسعى لتفليس المجتمع وإفقاده قواه والقضاء على
خصوصياته وتعدده وتنوعاته وإمكانياته، من أجل إيجاد سلطة مركزية تصبح بدورها سهلة
التحريك وقابلة للتحكم من قبل القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة".
وعن ذلك يكتب برنارد لويس في مقالته المعنونة ب
" جذور الحنق الإسلامي" والمنشورة عام 1990 " جلب إدخال الأساليب
التجارية والمالية والصناعية الغربية ثروة كبيرة حقا، ولكنها عادت على الغربيين
وأفراد الأقليات المُتَغرِّبة التي استنبتها الغرب، وعدد قليل فقط من بين غالبية
السكان المسلمين. مع الوقت أصبحت هذه الأقلية أكثر عددا، ولكنها بقيت معزولة عن
الجماهير، وتمايزت عنها حتى في لباسها وأسلوب حياتها. حتما كان يُنظر إليهم على
أنهم عملاء ومتعاونين مع ما كان يُعتبر عالما معاديا."
وعن نتائج ذلك تقول د. ثناء فؤاد عبدالله
" في تقديمها المعنون ب " خلاصة تنفيذية، قراءة في أوراق اللقاء الرابع
عشر لمشروع دراسات الديمقراطية ."
" في نموذج "الاستبداد العربي"
هناك علاقة أكيدة بين الفقر والاستبداد وامتصاص طاقات المجتمع. وفي البلدان
العربية بوجه عام هناك فجوة واسعة بين الأغنياء والفقراء، وبين الدول، وفي داخل
الدولة الواحدة". وتضيف في موضع آخر قائلة " ومع فشل مشروعات التنمية،
وتعثُّر تحديث الدولة، وتفاقم المشكلة الاقتصادية، وإخفاق خطط الخصخصة وإعادة
التكيف، واقتران التحول الاقتصادي بظواهر مَرَضية، منها الرشوة والمحسوبية
والزبونية والمضاربة والاختلاس وإهدار المال العام، فقد بدا النظام وكأنه "
إقطاعات" و"مراكز نفوذ" موزعة بين الحاشية والأقرباء والزبائن
الذين يتم استخدامهم من جانب "الحكم" للبقاء على قمة
السلطة.".
أما على الصعيد الاجتماعي فقد لجأت الأنظمة
العربية لتثبيت حكمها، الغير مُستَنِد على شرعية داخلية، إلى الكثير من الإجراءات
التي قادت إلى تمزيق بلدانها لتبقى تلك الأنظمة ومن يدور في فلكها هي القوى
الممسكة بزمام المبادءة. وقاد كل هذا إلى تمزيق القوى الإجتماعية وتشتيت جهودها
وإضعافها لدرجة قيامها، أحيانا، بقبول ما تراه تلك من أجل الحفاظ على بقاءها فقط.
ومن هذه الإجراءات مثلا تكريس القبلية والطائفية وخلق طبقات اجتماعية جديدة مرتبطة بالأنظمة الحاكمة ولا همَّ لها سوى الحفاظ على بقاء تلك الأنظمة.
يقول د. عبد الستار قاسم في مقالته المعنونة ب " حروب الاستبداد العربي" المنشورة على موقع الجزيرة نت حول تكريس الطائفية : "ما الذي يضير الحكام العرب إذا افتتن الشيعة والسنة واقتتلوا وأنهكوا قواهم؟ لا شيء، بل على العكس وكما نعرف تاريخيا أن سياسة الحكام العرب تقوم على استقطاب الولاء والتفرقة بين الناس، وأكبر دليل على هذه السياسة هو شيوع الوساطات والمحسوبيات في الساحة العربية، والتي تعتبر ممارسة عنصرية تولد الكراهية والبغضاء بين صفوف الناس."
أما دور القبلية في دعم الاستبداد فتمظهر في حالتين. أولاهما تَفَرُد قبيلة بالحكم دون الآخرين، وهذا واضح في مشيخات وممالك دول مجلس التعاون الخليجي وليس بحاجة للاستفاضة في شرحه. وثانيهما هو تحالف الأنظمة الحاكمة مع شيوخ القبائل. وتظهر هذه الحالة في دول مثل الأردن وليبيا وغيرها من الدول العربية الأخرى. وفي كلا الحالتين تم استخدام القبيلة لمنع تطور أي بادرة وطنية مستنيرة للقضاء على الاستبداد أو التخفيف من حدته. فعلى سبيل المثال زاوجت دول الخليج العربي بين الدين والقبيلة لحرمان المرأة من حقوقها وإنسانيتها، وبذلك ضمنت هذه الدول تعطيل نصف مجتمعاتها واستمرار تخلف ذلك النصف ما يضمن تعطل باقي فاعليات المجتمع. كما أن حكامها نسجوا خيوط التحالف مع شيوخ القبائل لضمان تعطيل حيوية شباب ومثقفي قبائلهم وقمع أي بادرة للتمرد على الواقع السياسي البائس المفروض عليهم. أما باقي البلدان التي لا يوجد فيها قبائل أو عشائر قوية، فكانت الأنظمة تلجأ إلى الرشاوى السياسية مثل المناصب العليا قي الدولة، والرشاوى المالية مثل الهبات والأُعطيات المُقدمة من خزينة المال العام، وأخيرا الرشاوى الاجتماعية مثل تقوية مجموعة ما في قبيلة على مجموعة أخرى إذا خافت تدني مستوى ولائها. وينطبق ذلك على مجموعات مراكز النفوذ الاقتصادي والسياسي في البلدان التي لا قوة للقبيلة فيها.
في التحقيق الصحفي الذي نشرته جريدة الرياض السعودية في 4\7\2010 قالت الأديبة "عائشة الحشر": "إن القبيلة تتعصب إلى خلفيتها الثقافية ذات التصلب الفكري القائم على الترابط القبلي المستند على الأعراف والتقاليد، والانتصار لذوي القربى في أي ظرف، ونعرف أيضاً أن القبيلة منتج تاريخي نشأ واستقر على حاله قبل نشوء الدولة وقبل تكون النظم السياسية، أي أن الترابط القبلي هو بدايات التكتل البشري على شكل نظام اجتماعي، لكن هذا الشكل غدا مؤثراً على المجتمع الحديث من حيث تشكيل وعيه، وثقافته، وعلاقته بالآخر، وهذا كله معيق لأي محاولات تطويرية للحركة الحقوقية السعودية، ومن ثم خلق المجتمع المدني؛ لأن الثقافة القبيلية قائمة على الولاء لتاريخ القبيلة مهما كان، والتفاخر به والتنافس مع غيرها داخل المجتمع الواحد، وهذا يؤدي إلى الإبقاء على التعصب القبلي ضد بناء المجتمع المدني الساعي إلى تطور المجتمعات سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. "
ويكتب د. أحمد قايد الصايدي حول نفس المعضلة في مقالته المنشورة على موقع "الوحدوي نت" في 19\10\2012 والمعنونة " الثورة والدولة والقبيلة في اليمن" قائلا " لقد تسلمت ثورة سبتمبر من العهد الإمامي وطناً بلا إدارة حديثة وبلا إقتصاد وبلا مرافق خدمية، أي بلا دولة، بالمعنى الحديث للدولة. وهذا ماسهل للبنية الإجتماعية (القبيلة)، التي ارتكزت عليها الإمامة، أن تواصل دورها القديم في إطار العهد الجديد (العهد الجمهوري)، بل وتُعظّم هذا الدور، بفعل عوامل داخلية وخارجية مستجدة، محبطةً كل جهود التحديث، لتستمر روح الإمامة، في ثوبها الجمهوري الجديد، وتعود في نهاية الأمر إلى أصلها، المتمثل بحكم الأسرة وولاية العهد."
الملاحظة الخطيرة الجديرة بالاهتمام والتركيز العميق هي أن الأنظمة العربية جميعها بالإضافة إلى ما ذُكِر أعلاه كرست المثلث الذي ورثته عن الأسلاف الأمويين والعباسيين والعثمانيين والمتمثل بتحالف السلطة مع رأس المال والدين لتكريس وجودها وإيجاد شرعية مصطنعة تساعدها على إبقاء سطوتها وقدرتها على الإمساك بكل ما يُضعف الفئات الشعبية التي تئن تحت وطأة فسادها واستبدادها ورهن الأوطان ومقدراتها للخارج الحامي لوجودها. وأعتقد أنه يجب تفكيك هذا المثلث وإعادة توزيع أجزاءه كلٌ في مكانه وضمن دساتير وقوانين واضحة تجعل الإنسان هو المحور. فلا يمكن ترك المال يوجه سياسات الحكومة لأن النتيجة ستكون بالإضافة للاستبداد السياسي تكريس استبداد رأس المال المنفلت من كل أخلاقية إنسانية. كما أنه يجب إبعاد محترفي الدين عن التحالف مع السلطة لأن للمبرر الديني عند الجماعات شبه البدائية قوة ما بعدها قوة. حيث يستطيع رجل دين أن يجهظ أي تمرد أو انتفاضة بمجرد استخدامه لقال الله وقال الرسول أو روي عن السلف الصالح أو ورد في الأثر. لقد أوجد هذا التحالف غير المقدس مثلثا آخر قاد إلى حالة من التردي جعلت دولنا في ذيل الأمم من كل النواحي الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. هذا المثلث يتمثل بثلاث ظواهر خطيرة هي الفقر والمرض والجهل. وهي أن أحكمت قبضتها على أمة من الأمم قد تقودها إلى التلاشي لعدم قدرتها على الصمود أمام الأمم الأخرى. لذلك يجب أن تـكون المكونات الثلاثة – السلطة والمال والدين - في خدمة الإنسان وليس العكس.
وعند الحديث عن الحالة
السياسية الأردنية نجدها لا تختلف عن أي بلد عربي آخر. فالتوافق لمجاميع السكان
ولحظة التأسيس لقيام النظام لم تكن حالة إجماعية ذاتية، لكنها كانت نتيجة حالة
اتفاق بين أسرة وحالة استعمارية لها مشروعها البعيد كل البعد عن أماني وطموحات
الأردنيين. فاستعراض سريع للحالة التاريخية للتأسيس للدولة نجد أنها سُبِقت بحالة
من تكريس الانقسامات عندما عززت الحكومات المحلية التي قامت في تلك الفترة. ثم قام
الإنجليز بتنصيب نظام حكم بعيدا عن الاكتراث بآمال وطموحات الأردنيين. وقام النظام
بكل ما يستطيع لإبعاد الأردنيين عن الوصول لحالة إجماع وطني حقيقي لتحديد شكل
دولتهم والتأسيس لحالة من التداول السلمي للسلطة.
ما يُلفت النظر هو أن
النظام قام باستغلال ما يمكن أن يجمع الأردنيين لتشتيتهم وإيقاعهم في حالة من
التوتر الدائم ليكون هو القاسم المشترك الوحيد بين الناس مما أدى لاحقا لتشويه
حالة الإجماع الوطني ليكون إجماعا على النظام واختلافا وخلافا على الأردن. فالجهات
الرسمية من رأس هرم النظام إلى أدنى مستوياته القيادية يتبجحون في كل مناسبة سانحة
حول التجانس الداخلي للنسيج الأردني وأن الحكومات الأولى التي تم تشكيلها في عهد
الإدارة البريطانية لإمارة شرق الأردن كانت مُشكّلة من قيادات ما يُسمى بقيادة
الثورة العربية الكبرى. لكن الوقائع على الأرض تنفي كل ما يتبجح به هؤلاء. فالنظام
عندما يشعر بالتهديد يلجأ إلى فزاعة الوطن البديل ويخوف المواطنين بمسألة استيلاء
المواطنين الأردنيين من أصل فلسطيني على مفاصل الدولة الاقتصادية والسياسية ليعيد
تشكل اصطفافات المكونات الوطنية بما يتناسب
وأجنداته وحفاظه على بقاءه كمكون ضرورة لبقاء الدولة بشكلها الحالي. أو
يبدأ بالترويج أن أبناء شمال الأردن لن يقبلوا أن يحكمهم حاكم من جنوب الأردن.
والعكس صحيح. والأوتار التي يمكن أن يلعب عليها النظام كثيرة لا وقت لذكرها في هذه
الدراسة.
كانت نتائج هذا السلوك
من النظام كارثية على الأردنيين ومن نتائجه على الأرض :
1- تحويل الأردنيين من
مواطنين إلى مجاميع سكانية ما يفرقها أعظم مما يجمعها.
2- تحويل مؤسسات الدولة
إلى هياكل هدفها تكريس هيمنة النظام وأعوانه على مفاصل صناعة القرار والسيطرة على
مقدرات البلاد.
3- استشراء حالات الفساد
السياسي والإداري والاقتصادي مما قاد إلى حالة من التفسخ والفساد الاجتماعي.
4- كل ذلك قاد إلى انكفاء
وتمحور حول الهويات الفرعية ليستطيع كل مكون اجتماعي الحفاظ ما أمكن على أي
مكتسبات أو امتيازات يتيحها له القبول بالحالة الراهنة للدولة الأردنية.
5- تكريس التبعية والمزيد
من الانغماس للنظام في المشاريع الخارجية القادمة للمنطقة والهادفة إلى إحداث
المزيد من التشتت والشقاق بين مكونات المجتمعات العربية.
لم تكن إجراءات
المعارضة التي قامت بها الأحزاب والمنظمات ذات جدوى أو فيها الحد الأدنى من القوة
لكبح جماح النظام والمجموعة المحيطة به لأسباب كثيرة منها:
1- قمع النظام لأي مشروع
وطني بقسوة لقناعته بأن المشاريع الوطنية الحقيقية قادرة على إحداث خلخلة في
موازين القوى الداخلية للحد من تغوله على جميع مناحي الحياة.
2- عدم وضوح الرؤية عند
من تصدوا للعمل العام تمثل بعدم طرح برامج عمل واقعية ذات أهداف قابلة للتحقق
واللجوء إلى ردود الأفعال في مواجهة أجهزة الدولة المسيطرة على كل ما يمكنه احتواء
أي ردة فعل في أي ظرف أو زمن.
3- تشتت ما يُسمى قوى
المعارضة وعدم جديتها في بناء تحالفات مرحلية أو إستراتيجية للخروج من المآزق التي
قادت أفعال النظام إليها. لأنه كلما زادت هوة الشقاق بين المنظمات الأهلية زاد
ضعفها وقويت قبضة النظام. ويؤكد ذلك الدكتور الكواري في بحثه السابق ذكره حيث
يقول:" فلولا الشقاق بين الأطراف الأهلية وقصر
نظرها في إدراك سياسة فرق تسد، وضيق أُفقها السياسي والوطني،
لما كان الشقاق الفكري والثقافي متجذراً ومتعذراً
على التسوية
التاريخية، ولما بدت دولنا العربية المجزئة ساحة حروب أهلية
فكرية ومادية
يمزقها التعصب والتطرف، وتؤجج في كل منها الصراعات المدمرة،
الطائفية
والمذهبية والأثنية والمناطقية وحتى القبلية والعائلية. فكل جماعة تميز نفسها وتشير للآخرين "بإخواننا" تأكيداً لعمق
مفهوم الأنا والأخر وتعبيراً عن غياب مفهوم
المواطنة وروح المواطنة الجامعة نتيجة تراجع عملية
الإندماج
الوطني، التي لا تقوم لدولة قائمة ما لم يتم التوافق بين الأفراد والجماعات على قواسم وطنية مشتركة تؤسس عليها عملية الإندماج
الوطني وتستدام الوحدة الوطنية."
4- حالة اتساع الهوة بين
الناس ومن تصدوا للعمل العام وذلك ليأس الناس من هذه الفئة نتيجة تجربتهم المريرة
معها وذلك لكثرة الانتهازيين الذين اتخذوا من الناس مطايا للوصول إلى أهداف شخصية
أنانية.
أعتقد أنه حان الوقت
للعمل على مشروع وطني جديد تكون المواطنة أساسا له والدستور المتوافق عليه والمؤسسية
عنوانا لعمله. وهذا يقودنا إلى البحث عن المكونات الحقيقية القابلة للتحقق والتي
على أساسها نعيد تعريف أنفسنا وطنيا ونتصدى لكل ما يعيق ممارستنا لسيادتنا الوطنية
داخليا وخارجيا.
وهذه المكونات هي:
1- أرض الأردن بحدوده الواضحة.
2- الإيمان بفكرة
المواطنة أساساً مُقدما على كل اعتبار آخر .
3- التراث
الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي أنتجته كافة الفئات الاجتماعية المشكّلة للبناء
الاجتماعي الأردني والذي تراكم عبر السنوات الطويلة، ودمجه على أساس التجربة المشتركة
الايجابية لكافة الفئات. ( محمد عبدالله الجريبع – دراسة سوسيولوجية لحالة الهوية الأردنية).
4- حقوق وواجبات مشتركة لجميع أفراد الوطن تضمن العدالة والمساواة وتكافؤ
الفرص للجميع منصوص عليها صراحة في دستور توافقي.
No comments:
Post a Comment