Friday, September 4, 2020

 



الغجر والعوام بين شكسبير وعرار

فتح كسّاب

ليس سهلا الحديث عن شخصيتين مثل شاعرنا عرار(مصطفى وهبي التل)  أو الكاتب المسرحي الإنجليزي شكسبير، لأن ما كُتب عن شكسبير مثلا وبدون مبالغة يكاد يصل إلى مكتبة فيها من الكتب والأبحاث والدراسات ما لم يترك شاردة ولا واردة في أعماله إلا وتم التطرق إليها. أما عرار، فمن وجهة نظري، فإنه لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث لا على المستوى الوطني ولا على المستوى العربي. فقد كان شاعرنا من أوائل من نظموا شعر التفعيلة في العالم العربي. لكني سأتطرق أولا إلى أوجه الشبه بين الأديبين:

 حيث ولد واشتهر كلاهما في فترة من الاضطراب السياسي في بلديهما. عاش شكسبير في إنجلترا التي كانت تمر بمرحلة من الانقسام المذهبي والاضطراب الداخلي بعد انشقاق الملك هنري الثامن عن الكنيسة الكاثوليكية ما أغرى فرنسا بغزوها ومحاولة احتلالها. لكن حنكة وطول نفس الملكة إليزابيث مكنها من التخفيف من حدة الصراع الداخلي ومجابهة الخطر الخارجي وبدء البناء لإنجلترا قوية. أما عرار فقد عاش شبابه في فترة إعلان دولة شرق الأردن ووضعها تحت سلطة الانتداب البريطاني وما سبق ذلك من اضطرابات نتجت عن إعلان حكومات محلية وما تبع بعد ذلك من محاولات سلطة الانتداب فرض حالة من الاستقرار وتوطين سكان شرق الأردن من البدو الرحل. أما وجه الشبه الثاني هو أن كلاهما كتب شعرا حيث إنّ عرار كان شاعرًا فيما كتب شكسبير أعماله المسرحية شعرا، إضافة إلى ما كتب من ألوان الشعر  وأشهرها السونيت.

أما على صعيد الاختلاف بين الشخصيتين فسأتطرق إلى أمرين هما: نظرة كل منهما إلى المختلف عرقيا وثقافيا وسأخصص هذا الجزء للغجر عند شكسبير والنَّور عند عرار. أما الاختلاف الثاني فسأخصصه لموقف كل منهما من العوام أو الشعب عموما.

ولنبدأ بشكسبير والغجر.

في الخطاب الافتتاحي لمسرحية أنطونيو وكليوباترا يلقي الجندي الروماني فيلو على الجمهور مقدمة مهينة عن الملكة المصرية، التي لم تظهر ولم يُقدَّم اسمها بعد، قائلا:

Upon a tawny front: his captain's heart,
Which in the scuffles of great fights hath burst
The buckles on his breast, reneges all temper,
And is become the bellows and the fan
To cool a gipsy's lust.(1)

 

وأن قلبه المغوار الذي كان يفتق الدرع على صدره

في معمعان المعارك المشهودة يأبى الآن أن يكبح لنفسه جماحا

حتى لقد غدا كالكير أو المروحة يبرد شهوة غجرية(2)

لا يعطي وصف "الغجرية الشهوانية" انطباعا جيدا عند القراء عن كليوباترا. ولتبيان الأمر لا بد من العودة لدلالات الكلمة في ذلك الزمن.

هناك ثلاثة معانٍ لكلمة ‘gypsy’ في الإنجليزية الحديثة المبكرة وليس لأي منها ما يعطي انطباعا إيجابيا.الأول شبه عرقي للدلالة على الأصل أو العرقية المصرية. وتعود جذوره إلى الأصل اللاتيني  Aegyptius  والذي وصل إلى الإنجليزية الوسيطة باللفظة gipcyan وهذا الاشتقاق المُضلِل يحور الكلمة من مدلولها الأصلي إلى معنى جديد يفيد أن المصريين مجموعة عرقية مشكوك فيها أخلاقيا، وهو أمر ينبع من الموقف الاستعماري الروماني  الذي يتسم بالدونية تجاه شعب  مصر التي أصبحت مقاطعة خاضعة للإمبراطورية الرومانية. وفي هذا السياق يتم تصوير المصري على أنه الآخر أو المضاد للروماني المنظم المتحضر.أما الثاني فيشير إلى الشعب دائم الترحال وهو المعنى الدارج حتى يومنا هذا. والأخير الذي يشير إلى الدلالة الأقل احتشاما أي "العاهرة الشهوانية"(3)، وهو المعنى المقصود في مقدمة فيلو في بداية المسرحية.

والملاحظ في هذا التقديم لمعنى كلمة غجر هو التحامل والنظر بدونية إلى آخر معادي دون النظر إلى ثقافته مهما كانت مقارنة بالثقافة الرومانية أو الإنجليزية في ذلك العصر. استخدم شكسبير كلمة ""gypsy  في مسرحياته ثلاث مرات. حيث وردت في مسرحية روميو وجولييت مرة واحدة لوصف كليوباترة، ومرتين في مسرحية أنطونيو وكليوباترا مرة لوصف كليوباترة وأخرى وصفا لمصر مترافقة مع عبارة  " روح مصر الخائنة".

Betray'd I am:
O this false soul of Egypt! this grave charm,—
Whose eye beck'd forth my wars, and call'd them home;
Whose bosom was my crownet, my chief end,—
Like a right gipsy, hath, at fast and loose,
Beguiled me to the very heart of loss.
(4)

 إني ضحية الخيانة فيا ويلي من روح مصر الخائنة.

ويا ويلي من سحرها الفتاك الذي اجتذبني بلمحة من عينها

فقادتني إلى الوغى ثم قادتني إلى عقر دارها حيث وجدت في أحضانها ثوابي وأعز رغابي

لقد خدعتني كالغجرية الأصيلة ولعبت بي حتى انتهيت إلى دمار ليس بعده دمار.(5)

أما فيما يخص نظرة شكسبير إلى العوام فتتلخص بالكلمة التي كان يصف بها أولئك الفئة من الناس حيث استعمل كلمة crowds لوصفهم، وخاصة في المسرحيات الرومانية. ولفت الكثير من الباحثين إلى أنها مرادفة لكلمة mobs وهي كلمة غير لائقة أبدا ويمكن ترجمتها إلى العربية بكلمة رعاع. يرد هذا المعنى في مسرحية يوليوس قيصر حيث الحشود أو الرعاع (الجبناء) يموتون مرات عدة قبل موتهم أما الشجعان فلا يموتون إلا مرة واحدة.

“Cowards die many times before their deaths; The valiant never taste of death but once.”

وفي مشهد الجنازة يصور شكسبير "المواطنين" على أنهم دمويون ويفتقرون لأدنى حس بالمنطق ويظهر ذلك في الحوار الذي دار بينهم وبين "سينا" CINNA الشاعر. فعندما يعرفون اسمه يصيح أحدهم " مزقوه إنه متآمر" وعندما يستدرك سينا الموقف ويخبرهم أنه الشاعر وليس المتآمر، يصيح آخر " مزقوه لرداءة شعره".

كما استخدم الصفة plebeian لوصف عامة الناس في مسرحياته. وهي كلمة مشتقة من الأصل اللاتيني plebeius والتي تشير إلى الشخص الجلف أو السوقي أو المبتذل. وقد استخدمها تسع مرات في أربع مسرحيات هي أنطونيو وكليوباترا وكورليونيس وهنري الخامس وتيتوس أندرونيكوس.

تكشف هذه الأمثلة نظرة التعالي على العوام التي مارسها شكسبير بحقهم، لكنه مارس العكس تماما مع الطبقات الحاكمة وهذا انحياز صريح للسلطة ضد الفقراء والمهمشين في مجتمعه.

بالنسبة لعرار كان الأمر على العكس تماما . فقد نظر إلى النَّور نظرة مختلفة. وقد عبّر عن ذلك في شعره صراحة. فهم بالنسبة له متساوون مع الباقين. ومثال ذلك قصيدة "العبودية الكبرى" حيث يقول:

يا مدعي عام اللواء   وأنت من فهم القضية

الهبر جاءك للسلام      فكيف تمنعه التحية

ألأن كسوته ممزقة            وهيئته زرية

قد صده جنديك الفظ       الغليظ بلا روية

وأبى عليه أن يراك    فجاء ممتعضاً إِليه

يشكو الذي لاقاه من   شطط بدار العادلية

ويقول إن زيارة الحكام      لا كانت بلية

فاسرع وكفر يا هداك  اللّه عن تلك الخطية

وأدخله حالاً للمقام     وفز بطلعته البهية

ودع المراسم والرسوم لمن عقولهم شوية

فالهبر مثلي ثم       مثلك أردني التابعية

كما رأى فيهم نموذجا للمساواة والبعد عن الطبقية وانتفاء الفوارق بين الجميع ويظهر ذلك في قصيدته " بين الخرابيش"

بين الخرابيش لا عبد ولا أمة  ولا أرقاء في أزياء أحرار

ولا جناة ولا أَرض يضرجها     دم زكي ولا أخاذ بالثار

ولا قضاة ولا أحكام أسلمها   برداً على العدل آتون من النار

ولا نضار ولا دخل ضريبته تجنى   ولا بيدر يمنى بمعشار

بين الخرابيش لا حرص ولا طمع ولا احتراب على فلس ودينار

الكل زط مساواة محققة تنفي        الفوارق بين الجار والجار

أما عن نظرته إلى فقراء الشعب فقد جسدها شعرا في العديد من قصائده وكان واضحا في انحيازه لهم أمام استقواء السلطة وإذلالها للناس . يظهر ذلك في قصيدته " عفا الصفا وانتفى من كوخ ندماني"

عفا الصفا وانتفى من كوخ ندماني    وأوشك الشك أن يودي بإيماني

شربت كأساً ولولا أنهم سكروا      بخمرتي وسقاني الصاب ندماني

لقلت يا ساق هلا والوفاء كما ترى      تنكر هلا جدت بالثاني

سيمت بلادي ضروب الخسف وانتهكت   حظائري واستباح الذئب قطعاني

وراض قومي على الإذعان رائضهم    على احتمال الأذى من كل إنسان

فاستمرأَوا الضيم واستخذى سراتهم      فهاكهم يا أخي عبدان عبدان

وإن تكن منصفاً فأعذر إذا وقعت    عيناك فينا على مليون سكران

إليكها عن أبي وصفي مجلجلة         أبا فلان وما قولي ببهتان

هلا رعيت رعاك اللّه حرمتنا     هلا جزيت تفانينا بأحسان

مولاي شعبك مكلوم الحشا وبهم من غض طرفك والاهمال داءان

وفي قصيدة "إخواني الصعاليك" يعرّض عرار بالمرابين ويصرح بتحالفهم مع السلطة ونقمته عليهم فيقول:

قولوا لعبّود علّ القول يشفيني إنّ المرابين إخوان الشياطين

وأنّهم لا أعزّ الله طغمتهم قد أطلعوا  رغم تنديدي بهم ، ديني

فذا يقول: غريمي كيف تمهله ؟ وذاك يصرخ: لم تحبسه مديوني ؟

كأنّما الناس عبدان لدرهمهم وتحت إمرتهم نصّ القوانين !

يا شرّ من منيت هذي البلاد بهم ايذاؤكم فقراء الناس يؤذيني

إنّ الصعاليك مثلي مفلسون وهم لمثل هذا الزمان " الزّفت " خبوني

والأمر لو كان لي لم تفرحوا أبدا من أجلّ دين لكم يوما بمسجون

(فبلطوا البحر ) غيظا من معاملة وبالجحيم ، إن اسطعتم فزجوني

فما أنا راجع عن كيد طغمتكم حفظا لحق ( الطفارى ) والمساكين.

يُحاكم المبدع  على ما كتب وليس على نواياه. فالكلمات تكشف المكنون وتشير تصريحا أو تلميحا إلى مواقف المبدع تجاه المجتمع والسلطة. وفي عصر التخصص الدقيق وسيادة مفاهيم جديدة كحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية لا بد من التطرق إلى جزئيات قد لا يراها البعض بسبب الشهرة أو الانبهار البلاغي. فقد انساق شكسبير خلف النمط الاجتماعي السائد فيما يخص الآخر المختلف حيث أظهر احتقارا للغجر في سياق استخدامه للكلمة في أعماله المسرحية وكذلك نظر لمصر بعيون الرومان وليس بعين المبدع المستقلة. فكانت روما عنوانا للتحضر والتنظيم بينما تمحورت صورة مصر حول الدونية والشهوة والخيانة. وأما العوام فكانوا نموذجا للغوغائية واللامنطق وهذا انحياز صريح للسلطة وموقف طبقي واضح. وكان أبطال مسرحياته إما ملوك وأمراء أو من علية القوم. عند استعراض نصوص عرار نجده ذا نزعة إنسانية منحازة للمساواة والعدالة الاجتماعية. فالنّور لم يكونوا الآخر الذي نقيس به تميز شخصيتنا العرقية، بل كانوا بشرا يستحقون معاملة إنسانية كغيرهم من أفراد المجتمع. وبالنسبة للفقراء والمهمشين فهم الأولى بالرعاية والمساعدة ولم يقف موقف المساند للسلطة أو المتفرج المحايد بل أعلن انحيازه الصريح  لهم كما في الأمثلة التي سقناها من شعره. 

 

 

الهوامش:

1-    مسرحية أنطونيو وكليوباترا، المشهد الافتتاحي.

http://shakespeare.mit.edu/index.html

2-    ترجمة الدكتور لويس عوض، وزارة الثقافة المصرية. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكتاب العربي 1968 . ص 5

3-    Cleopatra a gypsy”: Performing the. Nomadic. Subject in. Shakespeare's. Alexandria, Rome and London. KeirElam.

4-    مسرحية أنطونيو وكليوباترا، الفصل الرابع، المشهد الثاني عشر.

http://shakespeare.mit.edu/index.html

5-    ترجمة الدكتور لويس عوض، وزارة الثقافة المصرية. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكتاب العربي 1968 . الفصل الرابع، المشهد الثاني عشر ص 131، 132.

6-    مقتبسات الشاعر عرار (مصطفى وهبي التل) من موقع

https://www.aldiwan.net/cat-poet-mustafa-altal

 

 

 

 

 

 

 

 

 

No comments:

Post a Comment