بقلم: فتح كساب
يحتار المتأمل لحال "العرب" من محيطهم الناعس إلى خليجهم النائم
في وصف هذا التجمع البشري وتصنيفه.فليس فيهم ملامح الأمة العرقية ولا ملامح الدول
القُطرية الوطنية. والموضوعية العلمية تقول أنهم أقرب إلى الحالة القبلية
الصحراوية منهم إلى حالة الدولة مهما كان مسماها.
فالأمم تتكون غالبا من تجمعات بشرية لها أصولها العرقية والجغرافية
المشتركة التي تجمعها. ثم تبدأ بصياغة تحالفاتها ووضع قوانينها التي تراعي عقليتها
وبيئتها لتنظم حياتها وحاجاتها اليومية. ثم تنتقل لمرحلة صاغية أساطيرها وملاحمها
وديانتها لتبرر تحالفاتها التي ستزيد لحمة أفراد مجتمعها لتكون قوية بما يكفي
للصمود أمام أي عاصفة قد تتعرض لها. والأمثلة على ذلك كثيرة مثل الفراعنة وحضارات
ما بين النهرين والكنعانيين وغيرهم من الشعوب أو الأمم التي صاغت أساطيرها ودولها
على هذا المنوال.
ولنرجع لما يُسمّى "الحالة العربية" لنرى ما تم إنجازه في هذا
السياق. كان عرب ما قبل الإسلام, من الناحية السياسية, قبائل متناحرة متعادية
نتيجة لتعارض مصالحهم الاقتصادية. حيث سعى الكل للاستحواذ على ما قد يحصلون عليه
من البيئة الصحراوية الجافة- والتي في الغالب لا تجود إلا بأقل القليل- وكانت هذه
القبائل موزعة الولاء بين القوى العظمى في حينه- الفرس والروم. وكان عمل هذه
القبائل أشبه ما يكون بعمل الدول الوظيفية أو مجموعات المرتزقة، مثل حماية الطرق
والقوافل الخاصة بتلك الدول وتأمين جباية الضرائب لها وتأديب القبائل الصغيرة التي
تتمرد على سلطانها. ولأدلل على ما أقول أكتفي بذكر التحالف الذي أقامته مجموعة من
القبائل للتصدي لحملة الفرس التي جاءت لتأديب القبائل التي ساندت النعمان الثالث
ملك الحيرة- الذي كان عامل كسرى- ولم تكن تلك القبائل هي جميع القبائل مجتمعة
ولكنها كانت في غالبيتها من قبيلة شيبان تساندها بعض بطون بكر بن وائل. تحارب
الطرفان في ما يُعرف تاريخيا باسم معركة ذي قار وانتصرت فيها القبائل المذكورة.
ولكن سرعان ما انحل ذلك التحالف لأن غرضه كان آنيا وكذلك لم يتطرق أي مصدر تاريخي
لمعلومة تفيد ببقائه في وقت لاحق. وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على عدم وجود فكرة
الأمة أو الجماعة العرقية أصلا بين القبائل في تلك الحقبة من الزمن.
لن أتطرق في هذا النص للناحية الثقافية وذلك لأن تلك القبائل لم تكن معزولة
عن العالم الخارجي، ولذلك كان لا بُد لها من تأثر ولو طفيف بمحيطها.
عند مجيء الإسلام تم توحيد تلك القبائل بالقوة لتشكل ما يمكن أن نسميه
" نواة لدولة عربية دينها الإسلام". لكن ذلك لم يتم بسبب دخول الثقافات
المحيطة في نسيج الدولة الوليدة، حيث كانت تلك الثقافات تسبق العرب كثيرا في جميع
المجالات ما أبعد فكرة ظهور الأمة العرقية عندهم.
ورغم العالمية التي نادى بها القرآن، بقيت العقلية القبلية هي المتحكمة
بالناس. ولا أدل من ذلك قول الحطيئة بعد موت النبي وتولي أبي بكر للخلافة :
أطـعنا رسول الله مذ كان حاضرا فـيا لـهفتي مـا بال أبـي بـكرِ
أيـورثها بـكراً إذا مـات بـعده فـتلك وبـيت الله قاصمةُ الظهرِ
أيـورثها بـكراً إذا مـات بـعده فـتلك وبـيت الله قاصمةُ الظهرِ
وفي العهد
الأموي استخدم معاوية الخلافات القبلية- بين القبائل القيسية والكلبية- لتعزيز
نفوذه السياسي وإحكام قبضته على كافة مفاصل الدولة ليبقى هو "شيخ القبيلة
الجديدة" بلا معارض له، مما زاد في اتساع هوة الفُرقة بين المكونات العربية
في الدولة الجديدة والتي كانت تصل حد الاقتتال أحيانا. واستخدم كذلك الرشى المالية
والوظيفية أو التهديد والوعيد لنفس الغرض.
ورغم
النهضة الإدارية الواضحة في إدارة شؤون الأقاليم، إلا أن الجانب السياسي للدولة
بقي قبليا بامتياز.
لم يؤثر
الإسلام فعليا على عقلية الناس ولم ينتفضوا على ظلم الأمويين الذين ملئوا الأرض جورا
وظلما، بل وصل الحد بهم إلى الخضوع التام لرغبة شيخ القبيلة- أو الخليفة سيان-
ورضوا بالتوريث وبايعوا ليزيد بالخلافة رغم سفهه وتاريخه الحافل بالتهتك وعدم
الاكتراث لأحوال العامة من الناس. وبتلك البيعة تم القضاء على فكرة الشورى في
الحكم وتكرست فكرة توريث الأبناء جريا على عادة شيوخ القبائل العربية.
بقيت الحال
كذلك حتى جاء الحسين بن علي بن أبي طالب وطالَبَ بما يُسمى اليوم بالإصلاح
والعدالة الاجتماعية. كان من المفترض لحركة الحسين، أو ثورته كما يحلو للبعض أن
يسميها، كان من المفترض لها أن تؤسس لحالة ثورية ينتج عنها صياغة سياسية واجتماعية
تؤسس لحالة قومية ثقافية يلتف حولها جميع المظلومين من القبائل العربية والشعوب
الأخرى التي دخلت تحت سيطرة الدولة الإسلامية وذلك لوجود أمرين مشتركين يجمعان هذا
الخليط العرقي المتنوع.
الأول هو
الدين الجديد الذي دخل فيه العرب وغيرهم بحيث أصبح قاسما مشتركا.
والثاني هو
حالة الظلم والاضطهاد التي أصابت جميع الفقراء من "رعايا" الدولة نتيجة
حالة التسلط التي فرضتها الدولة.
وقام
الحسين بن علي بالطواف على المراكز الحضرية الجديدة والقديمة في الدولة لشرح فكرته
في أحقية الناس في القيام على الظلم وتغيير حياتهم للأفضل. لكنه لم ينجح في ذلك
بسبب التصاق الناس برؤى شيوخ قبائلهم الذين رأوا أن مصالحهم السياسية والاقتصادية
مع السلطة القائمة. أضف إلى ذلك شدة البطش والأموال التي ضختها الدولة الأموية
تجاه الرموز الدينية التي استطاعت السيطرة على عقول الناس وجعلتهم يقفون مع الظالم
ضد المظلوم – أو من يُطالِب برفع الظلم عنهم. وهذه من المفارقات العجيبة التي
تحتاج لدراسة متأنية من مختصين وذلك لشدة تناقضها.
كان للصورة
الملحمية الرائعة التي دفع فيها الحسين وأهله وأصحابه دماءهم خدمة للمشروع
التنويري الذي بدؤوه وصمدوا من أجله، كان له وقع الصاعقة على الجميع وكان يُفترض
بتلك الملحمة الإنسانية البديعة أن تكون البداية للتأسيس لقاسم مشترك جديد، ألا
وهو القاسم الثقافي الملحمي الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى خلق الدولة الأمة بدلا
من الدولة القبيلة. لكن تَدَخُلَ الدولة بشقيها المالي المتمثل بالرشى، والديني
المتمثل بتقديم التأويل التحريفي لفهم الدين، أدى إلى خلق حالة عدائية لكل ما هو
إنساني يعزز حالة الثورة ضد الظلم والطغيان.
وعادت من
جديد حالة التنافس القبلي بين الأمويين والهاشميين، وهذه المرة باسم الدين أيضا
ومطالبة بالثأر لدم الحسين. وكاد هذا التناحر أن يطيح بالدولة بكل مكوناتها دون
اكتراث من أي من الطرفين إلا للمحافظة على كرسي مشيخة القبيلة من جهة أو الحصول
على ذلك الكرسي من الجهة المقابلة. وكان إفراز ذلك الصراع الدولة العباسية التي
بدأت عصرها كسابقتها بالبطش والإقصاء. وكان أول شيوخ القبيلة الجدد يُكنى
"السفّاح"!! ثم جاء من جاء بعد ذلك من سلاجقة ومماليك وأتراك واستخدموا
أساليب كل سابقيهم لتكريس شرعيتهم، وأهم تلك الأدوات المال وفقهاء التلفيق لتكريس
الجهل والرضا بالواقع المرير.
استمر
الحال على هذا النحو حتى تململ العرب- رعايا دولة الخلافة العثمانية- من الظلم
والبطش وحالة الجهل التي عاشتها المنطقة قرونا طويلة. وهذه المرة أيضا ثاروا على
" خليفة الله في أرضه !!" باسم الدين وأعلنوا عليه الجهاد. لكن حصل أمر
غاية في الغرابة والعجب. فقد تحالفت النخب العربية المسلمة!! مع البريطانيين
والفرنسيين " الفرنجة الحاقدين!!" ضد دولتهم. وتم كشف أمرهم وتعليق مشانقهم
لأنهم تخابروا مع قوى أجنبية كما قالت الدولة العثمانية في حينه. لكن العرب احتفوا
بهم وأطلقوا عليهم لقب "أحرار العرب". كيف يُعقل ذلك؟ هل التخلص من
مُستَعمر أو طاغية يبيح "للثائر" أن يتحالف مع مُستَعمر آخر ويعمل
جاسوسا له لإحلال استعمار محل استعمار؟ وهل يُسمى عمل كهذا تحررا ومن ماتوا في
سياق هذا المشروع أحرارا؟
وحتى نكون
أقرب للموضوعية فإن المعارضات التي ظهرت من ما قبل الإسلام حتى وقتنا الحاضر لم
تكن قريبة يوما من فكرة العدالة وقبول المعارضة. وكانت تُدير هيئاتها بنفس العقلية
القبلية التي تدير بها السلطة الدولة. فهي لم تكن أحسن حالا من النظم الحاكمة
ولذلك لم تحز على ثقة الناس لتسير خلفها وتُساندها لأنهم يعرفون إلى ما ستؤول إليه
الأمور. فرغم حالة التطور العقلي الهائلة التي كان عليها المعتزلة إلا أنهم
تحالفوا مع سلطة المأمون وفرضوا رؤيتهم على مناوئيهم بقوة الحديد والنار فيما
عُرِف تاريخيا بمحنة خلق القرآن. وما استفراد جهة دون الآخرين بالحكم في دول ما
يُسمى بالربيع العربي في حاضرنا إلا دليل واضح فاضح على العقلية القبلية المتخلفة.
فمن المعروف والبديهي أنه إذا حصلت ثورة ضد نظام حاكم في بلد ما ونجحت أن تقوم
جميع أطراف المعارضة بالحكم معا في الفترة الانتقالية وذلك لصياغة حياة سياسية
جديدة للإسراع بالوصول إلى حالة استقرار تضمن المحافظة على أرواح الناس ومُقدرات
البلد. لكن لو تتبعنا ما حدث فعليا نرى العكس تماما.
ماذا حلَّ
بتونس ومصر بعد ثورتيهما؟. ألم يبدأ الإسلاميون حكمهم بالتفرد والإقصاء والبطش لمن
ساندوهم يوما ما؟ ألم يتحالفوا مع المشروع
الأمريكي الصهيوني للوصول للسلطة؟ - غساسنة ومناذرة القرن الحادي والعشرين!! ألم
يسلِّموا كل مقدرات دولهم- كغيرهم ممن لم يصل التغيير إليهم- إلى صندوق النقد
الدولي الخادم الأمين للرأسمالية المتوحشة؟
ألا يجتمع من يسمون أنفسهم ثوار سوريا بكل أطيافهم المذهبية والسياسية
بالسر والعلن مع الصهاينة والأمريكيين وأذنابهم من شيوخ البوادي والحضر للحصول على
المال والسلاح خدمة للمشروع الأمريكي الصهيوني؟ ألا يتنافس الإسلاميون والعلمانيون
في سوريا على إرسال رسائل تطمين للكيان الصهيوني في سبيل الوصول للسلطة مهما كلف
الثمن؟ إنها عقلية الارتزاق المتجذرة منذ الغساسنة والمناذرة إذا.
إن ما يحدث
من تكريس لمثل هذا النهج المتخلف سيؤخر بكل تأكيد عملية الوصول لدولة مدنية متحضرة
تكفل للجميع حقوقهم وتكافؤ فرصهم في كافة المجالات جاعلة من المواطنة عنوانا للعمل
والانجاز وستبقى الدول العربية مُلقاة خارج حيز الزمان والمكان لأن أصدق توصيف
ينطبق عليها أنها بنى ما قبل الدولة.
وبعد ألا
يدل كل ما ذُكِر آنفا على عدم وجود شيء إسمه القومية أو القُطرية في حياتنا؟ بل
إنه يدل على أنه حتى القُطرية لم تتجذر حتى الآن بين من يقطنون هذه الجغرافيا
البائسة. فكيف نتجرأ ونتشدق بوجود حالة قومية. ما زال المُعارِض والموالي والحاكم
يعمل بعقلية شيخ القبيلة.
13/04/2013